آية خيري نقلا عن جود ريدز
“ولكن يبدو أننا لا ندرك عمق مأساتنا إلا عندما نراها متجسدة في غيرنا، حينها فقط ندرك مدى الظلم الذي أصابنا عندما نرى الصورة الكاملة للمعاناة واضحة أمام أعيننا في حياة غريب عنا”
“تشعر وكأن تيهاً عظيماً قد تملك منها، أشياء كثيرة لا تفهمها، أشياء كثيرة أكبر منها.. ولا تجد أحداً حولها لينتشلها من هذا الظلام الذي تشعر به يحيطها ويعتصرها بعنف، لا أحد يساعدها لتفهم كل هذا الذي يحدث أو حتى يطمئنها!”
كنت أعتقد خطئاً أن رواية “فتاة من الشرق” للكاتبة نوران خالد والصادرة عن دار دوّن للنشر والتوزيع، عن رحيل أسرة من أصل تركي تركت مصر بعد سقوط الدولة العثمانية وهو موضوع لم أقرأ فيه من قبل فكان لدي فضول لأرى وجهة نظر مختلفة وزاوية مختلفة لشتات ما بعد سقوط الدولة العثمانية، ولكن اتضح عندما بدأتها أنها عن قصة تهجير عائلة شركسية مسلمة من شعوب دول البلقان “شعوب القوقاز” إلى بلغاريا، ولكن على مدار أجيال مختلفة في الهجرة الأولى والهجرة الثانية، بداية من الحفيدة “ميربابا” أو “ميري” وعودة إلى الجدة “نورسان” في طفولتها وشبابها، ثم الحفيدة مرة أخرى من طفولتها لشبابها، وهكذا دواليك خلال الفصول بين ماضي وحاضر يفصل بينهما أكثر من مائة عام ويتغير بينهما الكثير، إلا المعاناة الواحدة.
“تحركت الصفوف محاصرة بفرسان القوزاق المكلفين باقتيادهم حتى شواطئ البحر الأسود.. تاركين خلفهم كل شئ.. الدار والسكن.. الأرض والسماء.. كل ما مضى من ذكريات وأفراح وأحزان.. حتى الأموات والأحياء.. انتزعوا منهم كل شئ، وانتزعوا أرواحهم من كل شئ!”
كيف لطفلة تتلمس أولى خطواتها البريئة في هذا العالم القمئ بقسوته أن تُجبر على ترك بيتها وبلدتها وألعابها وحياتها وترحل إلى ما لا يعلمه إلا الله من مصير مجهول؟ كيف تشهد كل تلك المجازر والمشاهد البشعة أمام مقلتيها؟ كيف لها في غمضة عين وبين ليلة وضحاها أن تجد نفسها مسئولة عن الكبار والعجائز والمرضى ممن لا يحتملون مشقة رحلة الموت تلك التي لا ينجو منها إلا من كُتب في أقداره الحظ والرحمة؟ كيف يتسنى للأرواح ترك أوطانها وطمأنينتها وأمانها مكرهين مجبرين والرحيل إلى بلد غريب ليس هو بمكانهم ولا لهم منه بمكان؟
“كل ما هو في البيت ضروري، كل قطعة في البيت تمثل جزءاً من حياتها، هل يمكن أن يقسموا الحياة إلى أجزاء، ثم يطلبوا منك فجأة أن تختار ما هو ضروري لتأخذه وتترك الأجزاء الأخرى لتستكمل ما تبقى من الرحلة ببضع حياة؟”
نعيش مع العائلة في الجيلين المختلفين معاناتهم وآلامهم ومأساتهم الكبرى التي ما هي إلا نقطة في محيط، وفقدهم المتتالي ليس فقط للأرواح، وإنما للهوية والموطن والأهل والشمل والأمن والأمان، وتشتتهم في بقاع الأرض قاطبة وسوء المنقلب الشي حل بهم، وكيف أثر ذلك على تطور الشخصيات الأساسية وخاصة الشخصيتين النسائيتين الرئيستين بالرواية نورسان وميري.
“يجب أن تنسى كل ما مضى حتى نفسها القديمة يجب أن تنساها، وتسرع في بناء واحدة أخرى قادرة ليس فقط على التعايش مع تلك الحياة الجديدة، ولكن أيضاً قادرة على محاربتها ومواجهتها والتغلب عليها دون أن تنتظر أحداً ليساعدها في ذلك!”
كيف أن النفس البشرية قد تصل درجات تحملها إلى مقام المعجزات عندما توضع تحت أسوأ وأحلك الظروف والأزمات التي يعجز عقلها نفسه عن استيعابها، وهذا المبدأ من أكثر ما يثير انتباهي عند قراءة أو مشاهدة أعمال تتضمن التباين في قوة التحمل للنفوس البشرية، وما قد تظهره أسوأ الابتلاءات من أفضل القدرات للإنسان وأكثرها إبهاراً، مما لم يكن يتخيل يوماً أن يكونه، وأيضاً.. كيف أن العائلة هي كل شئ، كل شئ..
“لقد اجتزنا أنا وأنتِ ما عجز معظم الكبار عن تحمّله، اجتزناه وما زلنا نملك بعضنا البعض، صدقيني يا نورسان إن أخذ الله منكِ شيئاً، فهذا يعني أنكِ بالتأكيد لا تحتاجين إلى الارتكان إليه مهما بدا لكِ عكس ذلك، أما عني فأنا أعرف أني لا أحتاج إلا إليكِ أنتِ فقط لأواصل”
تلك هي المرة الأولى التي أقرأ فيها عملاً بأكمله عن التطهير العرقي والمذابح الجماعية وتهجير وترحيل المسلمين من دول البلقان على أيدي الروس وما فعلوه من فظائع تجاه ٨٠٪ – ٩٥٪ من إجمالي السكان، تلك الفظائع التي يندي لها الجبين خجلاً وتدمع لها العين حزناً ويُفطر لها القلب ألماً وعجزاً، ولا أستطيع أبداً تخطي كل مرة أقرأ بها عملاً يحمل مأساة أبناء شعوبي المكلومة إلا وتُنكأ جراحنا الحالية ويعود النزف من جديد، فلسطين الحبيبة الجرح الأبدي الذي لا يندمل، ثم سوريا ثم العراق ثم اليمن ثم لبنان، وبورما وأفغانستان وإيران وغيرها وغيرها، وكل مكان لاقى به العرب والمسلمون الظلم والعدوان بدون أن يحرك أحد في العالم ساكناً، ليس هذا فحسب، بل أي مكان على وجه الأرض يلقى به الإنسان على أي عرق وأي ديانة المهانة.
“اختلط البشر بالأمتعة البائسة والحيوانات التي لم تنفق في الطريق، وتصاعدت رائحة الروث والعفونة مختلطة برائحة المأساة الإنسانية التي ستبدو واضحة جليّة لأي شخص يقف فوق أي مرتفع قريب ليرى بعينيه مشهداً يُهان فيه الإنسان، وتُقهر الجوارح والقلوب في غلظة عصية على التصديق”
أما بالنسبة إلى موهبة الكاتبة في البناء الأدبي للرواية فلا أعلم هل أتحدث عن اللغة الجميلة العذبة أم عن السرد السلس المتماسك أم بناء الشخصيات المتناغم الذي جعلني أتعلق بالكثير منهم، كل هذا ولنضع دقة الوصف جانباً سواء وصف الأماكن أم الأشخاص أم المشاعر، ليست مبالغة ولكن إن كان هناك داع للمبالغة حتى فلنبالغ مادام العمل نال إعجابنا وما دمنا نراه يستحق، لم لا؟
“تجهل أن ما نجح في غسل الجسد والعقل والنفس وقف عاجزاً أمام ما تراكم فوق الروح”
الرواية مبذول فيها من الجهد الواضح ما يظهر في كل فصل منها، فهي زاخرة بـ كم كبير جداً من المعلومات ليس فقط عن تاريخ تهجير شعوب القوقاز ولكن أيضاً عن عاداتهم وتقاليدهم وأنماط معيشتهم في الأفراح والأحزان والمأكل والملبس والمسكن وغيرها الكثير من جوانب الحياة، وقد رأيت في النهاية كم المراجع الذي استخدمته الكاتبة وعلمت أنها استغرقت أربعة سنوات في كتابتها، ويبدو أنها بحثت ودققت كثيراً لتحرص على خروج العمل في أفضل صورة تحترم القارئ، وهذا ما أقدّره كثيراً.
“من يحمل قلباً راجفاً لا يسكن جفناه، وهما يحملان قلبين يكاد رجف الخوف أن يمزقهما”
“لا أرض كأرض الوطن يا نورسان”
يجب التنويه أن الرواية مؤلمة جداً وبها مشاهد قاسية للغاية، ذكرتني بعض مشاهدها المفجعة بمشاهد من واحدة من مفضلاتي لهذا العام، وواحدة من أروع أعمال الحرب وأكثرها ألماً وهي رواية “لا جديد على الجبهة الغربية” لـ إريك ماريا ريمارش – طبعاً مع الكثير من الاختلافات، ولكن تظل مهانة الإنسان واحدة، فالحروب في كل زمان ومكان ملعونة لعنة لا يُفك وثاقها إلى يوم الدين.
“أحس بالألم يخز قلبه وهو يسمع هذا الكلام عن أخيه وزوجته، لو طلبوا منه أن يجسد لهم هزيمة شعبه في كلمة واحدة لأشار نحوها قائلاً: هذه هي هزيمتنا، هذه الشابة الفاتنة العاشقة التي سُلبت شبابها وجمالها وحبيبها في لمح البصر، وجلست متكومة تشاهد الدنيا من الخارج بعينين زائغتين، وقد أوهنتها الهزيمة وشيّبها القهر والفقدان”
مثلما نشير إلى السئ لابد أن نشير إلى الجيد ونبرزه ونظهره، مثلما لا ندخر جهداً في انتقاد الأعمال الواهية الخاوية التي من الخسارة إنفاق الأموال والورق والحبر فيها حين يخيب أملنا، لابد أن نشيد بالأعمال المحترمة التي – غالباً ما لا تكون “ترند” أو يعلم عنها الكثيرون – والتي تعيد الأمل مرة أخرى في ساحة الأدب المصري المعاصر لتعود يوماً ما إلى الصدارة مجدداً مثلما كانت في الماضي وحتى عهدٍ قريب.
“يكفي كل واحد منهم أن يعيش فاجعة واحدة، وأن يُنتزع من أرضه وحياته مرة واحدة، وأن يُرغم على رحلة شقاء وألم واحدة”
في الكثير من الأحيان أرفع تقييم الأعمال الحديثة المصرية نجمة زيادة عندما تنال إعجابي وأراها تستحق تشجيعاً وإظهاراً لها، ولكن هذه المرة فالتقييم بالخمسة نجوم هو ما أرى أن العمل يستحقه بالفعل في ذاته أو مقارنة بالكثير من الأعمال المعاصرة، فهل هو صعب إنتاج ورعاية وتسويق أعمال مثل فتاة من الشرق؟! سعيدة جداً بتعرفي على قلم نوران خالد وأتطلع إلى قراءة الجزء الثاني، وبالطبع أرشح الرواية.
“في وسط كل ذلك، من يملك الوصول إلى مرفأ آمن وروحه لا تزال داخل جسده يكون أكثر الناس حظاً”