“مع مرتبة الشرف”.. محاولة عادية لفهم الحياة!

راندا السيد نقلا عن جروب مكتبة وهبان

يقدم لنا الكاتب عمرو حسين في روايته “مع مرتبة الشرف”، الصادرة عن دار “دوّن” للنشر والتوزيع، حكاية لا تتعالى على الواقع ولا تزخرف الألم، بل تُشبه إلى حد بعيد مذكراتٍ كُتبت تحت وطأة التعب، وعلى مكاتب الدراسة، وفي زحام الحياة، بين الحلم بما هو أفضل، والاستسلام أحيانًا لما هو مفروض.

الرواية تسرد يوميات “وليد أبو المكارم” شاب نشأ في بيتٍ غارق في الألقاب الأكاديمية، حتى بدا أن الهواء الذي يتنفسه مكوَّن من شهادات دكتوراه، وبياض معاطف الأطباء. فالكل يعمل في المجال الطبي، والكل ينتظر أن يكون “وليد” الامتداد الطبيعي لمسيرتهم.

لكن وليد الذي يخاف الدم، ولا يحتمل رائحة المستشفيات، كان يحمل في داخله ميلاً آخر نحو الأرقام والهندسة، حيث عالمٍ لا يُقاس فيه الألم بضغط الدم، بل بحدّة الزوايا، وصرامة القوانين الرياضية، ورغم ما أراده، اختار وليد ألا يُغضب والده، فوعده.. وعدًا مُحمّلاً بالخوف، أن يكون كما يريدونه، بل وأكثر.. سيحصل على الدكتوراه، وسيصير أستاذًا في الجامعة! ومن هنا تبدأ الرحلة.

هذه الرواية ليست عن الانتصار، بل عن المحاولة.. ليست عن بطل خارق يواجه كل شيء بعزيمة لا تنكسر، بل عن شاب عادي جدًا، يشبه كثيرين منا، يسقط، ويقوم، يتردد، ويحتاج التوجيه، يعيش حياة مركّبة لا تكتفي بهمٍّ واحد، بل تفتح له عشرات الأبواب في آنٍ واحد: طالب دراسات عليا، معيد جامعي، مُدرّس دروس خصوصية، موظف في شركة، خطيب يحاول تجهيز شقته، شاب فقد والدته في لحظة مصيرية، وابن يحاول على الرغم من كل شيء، ألا يُخيّب ظن أبيه.

رواية مع مرتبة الشرف

ورغم أن وليد وُلد في بيئة قادرة على خلق شخصية قوية، إلا أن ملامحه كشخصية روائية جاءت أقرب إلى “الابن المطيع”، كثير التردد، قليل المواجهة، لا يتمتع بذكاء اجتماعي كافٍ لتجنب المشكلات، ويميل إلى اعتماد الاستقلالية في حين أنه ليس جاهزًا لها.

وربما في هذا ما يُفسّر شعور القارئ أحيانًا بالغيظ من الشخصية، وأحيانًا بالتعاطف الكامل معها؛ لأنه ببساطة، لا يُقدّم نفسه بطلاً ملهمًا، بل شابًا عالقًا بين الحلم الذي يناديه، والسقف الذي يكبته.

جاءت لغة الرواية بالعربية الفصحى السلسة، منسابة بلا تكلّف. السرد اعتمد على ضمير المتكلم، مما جعل النص يقترب من روح المذكرات أكثر من كونه رواية تقليدية. نجح الكاتب في سحبنا إلى تفاصيل يومياته.

فـ مضى بخطى تقريرية هادئة، تحمل واقعيته من بساطته، وهو ما جعله أكثر صدقًا، فـ شعرتُ أنني أقرأ بحثًا لطالب لا يحاول أن يُبهرنا، بل أن يكون صادقًا فقط.

من بين القضايا المهمة التي تناولها العمل، كان النظام الأكاديمي المصري على رأسها. ذلك النظام الذي كان حتى وقتٍ قريب يُحدّد مصير الطالب بناءً على تقديره في السنة الأخيرة فقط، مُتجاهلًا جُهده عبر سنوات. مأساة وليد كانت تجسيدًا حيًّا لهذا الظلم.

كذلك، سلطت الرواية الضوء على فئة المعيدين وأعضاء هيئة التدريس، أولئك الذين يقفون في المنتصف: لا طلاب، ولا أساتذة كبار، يعيشون في دوامة مطحونة، بلا احترام أو تقدير، مضطرين للعمل الخاص لسد احتياجاتهم. كما أشار الكاتب ببراعة إلى تعسف بعض المشرفين الأكاديميين، الذين يحطمون طموحات الباحثين باسم “التوجيه”، بينما يدفنون إبداعاتهم تحت صرامة إدارية لا ترحم.

ثم يأتي ذلك الهاجس الذي ينهش أرواحنا جميعًا: الشقة. تلك اللعنة المعمارية التي تحول الطموح إلى سباكة، والبحث العلمي إلى محلات سيراميك. كم من حلم انكسر لأن “بلاط الشقة لم يُركب؟” الرواية تجيب.

ما يميز العمل كذلك هو رصدها الدقيق لزمن الثمانينات، والتسعينات، بملامحه وتحوّلاته: بدايات الموبايلات، الجدل حول الزواج وتكاليفه، زلزال 92، رسائل بريد الأهرام، عمرو خالد، أحمد زويل، وبدايات الإنترنت.. كل ذلك جعل من الرواية أرشيفًا حيًا لذاكرة طبقة وسطى مصرية عاشت أوج قلقها بين جدران متوسطة، وأحلام أعلى من السقف.

الرواية ليست قصة حب، ولا سيرة بطل، بل سرد لرحلة شاقة نحو المعنى. تُشبه الحياة، نجد فيها أنفسنا. فيها صوتٌ صادق، ووصف دقيق لما يحدث حين تحاول أن تبني نفسك من بين أنقاض الخوف والتوقعات.

ورغم أن البعض قد لا يرى ذلك واضحًا، إلا أنني شعرت بكل ما مر به وليد من مشقة، وصعاب.. نعم، لم تكن مآسي صاخبة أو انكسارات درامية، بل كانت تلك النوعية من الصعاب التي تأتي متخفّية.. صغيرة في ظاهرها، لكنها قادرة على إنهاك الروح مع الوقت.

يكفي أن تطرح سؤالًا واحدًا في كل مرة: لماذا لا تمضي الحياة كما نريدها؟ كلما خطونا خطوة، أعادتنا خطوات، وكلما حاولنا التماسك، باغتتنا بكفٍ جديد. قد لا تكون الضربات قاسية، لكنها متكررة بما يكفي لتُضعفنا.

تلك هي الرواية، حكاية عادية، لكنها تمس القلب، وتُوقظ شيئًا من ذاك التعب القديم الذي نحمله جميعًا دون أن نقول. هي عمل يُنصح به كاستراحة، أو من يريد أن يقرأ شيئًا يُشبه حياته قليلًا.