ناصر اللقاني نقلا عن جود ريدز
يُقدِّم لنا الكاتب المهندس عمرو حسين روايته البديعة المبتكرة “مع مرتبة الشرف“، الصادرة عن دار دوّن للنشر والتوزيع، الرواية تبدو من الوهلة الأولى كأنها دراما اجتماعية عادية، هادئة وبسيطة، لكن سرعان ما نكتشف أننا أمام قطعة فنية نادرة، نص أدبي يزعم الهدوء والبساطة، لكنه يخترق طبقات الرضا الزائف الذي نغلِّف به حياتنا، وينبش أرض السكينة التي نظن أننا مستقرون فوقها، ويشقّ أخدودًا عميقًا في نفوسنا، ثم يضعنا وجهًا لوجه أمام كل الأسئلة التي كنا نتجاهلها.
يبدو العمل كمدوّنة يوميات رجل أو جيل أو أجيال، هي أشبه بديوان الحياة في مصر، مرآة للعقل الجمعي لدينا، أجمل ما فيها أنها سهلٌ ممتنع، كل شيء فيها يبدو عاديًا، كل موقف يبدو مألوفًا، كل شخصيات الرواية عرفناهم من قبل، قابلناهم كثيرًا وتعاملنا معهم، كل أحداث الرواية مررنا بها ذات يوم، واجهناها وعشناها. لم نشعر بأي غربة داخل الرواية، مضينا مع هذا الهدوء وتلك البساطة، فإذا بنا نغوص داخل صفحات الرواية مع بطلها وليد أبو المكارم، لننتبه إلى زلزالٍ خافتٍ رقيقٍ يهزّ جنبات أبراج الوهم التي نسكنها، تمامًا كما انتبهت الدكتورة حنان بسيوني.
للرواية أيضًا بنية مبتكرة؛ فقد جاءت محتوياتها على هيئة بحث علمي منهجي، تبدأ بملخّص ومقدّمة، وعرض للدراسات السابقة والمنهجية المتّبعة في البحث، يليها عرض للنتائج المستقاة ومناقشتها، ثم أخيرًا الاستنتاجات واستعراض قائمة المراجع. هكذا كانت فصول الرواية تحاكي خطوات أي بحث، فانتابتنا الحيرة من ذلك، حتى أخبرتنا الرواية أن: “قصة كل إنسان هي قصة بحث”.
كان وليد كمال أبو المكارم يسعى وراء هدفٍ يريد تحقيقه والوصول إليه. بدأ مشوار الألف ميل ومضى فيه. رأينا كيف قرر دراسة الهندسة، وعرفنا كل الأطباء، وأفراد الأسرة جميعًا: أبيه كمال، وأمه منيرة، وأخته مروة، وجدّه سعيد، وعمّه جمال، كما عرفنا خطيبته وسام، وزميله محسن، والدكتورة حنان، والدكتور مانوش، وسارة بييكاريسكا.
عشنا بجواره في مصر وفي أمريكا، مشينا معه خطوات كثيرة في مشوار الألف ميل، تأرجحنا مع كل القرارات التي اتخذها: الطب أم الهندسة؟ الخط الأكاديمي أم الخط العملي؟ طريق العلم أم طريق الرفاهية؟ الحب أم تحقيق الهدف؟
طلت علينا من داخل الرواية كل مفردات الحياة المصرية في ذلك الزمن: البيوت، والشوارع، والسيارات، والعلاقات، والأحلام، الزلزال، وبريد الأهرام، وعبد الوهاب مطاوع، وعمرو خالد، وأحمد زويل، وطائرة نيويورك، وبدايات شبكة الإنترنت، وشركات الهاتف المحمول. عرفنا الأطباء، والمهندسين، والموظفين، والسماسرة، وأساتذة الجامعات، والقانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٢، وشهدنا جمعيات النقود، وانتظرنا مع وليد ووسام طوال سنوات تشطيب الشقة.
كانت اللغة بسيطة وعذبة، وحين استلهم الكاتب روح السيَر الذاتية واليوميات، كان الحكي أقرب إلى تداعي الأفكار والذكريات، وكان السرد يتجوّل في الزمن جيئةً وذهابًا، ويتنقّل داخل النفس صعودًا وهبوطًا. ظلت مقاطع الفصول تتناوب بين الواقع والأحداث الحياتية من جهة، وبين الخيال والمشاعر الإنسانية من جهة أخرى. وكان كل ذلك يجري بينما تحلّق بنا الرواية متنقلةً بين الأسئلة الاجتماعية والنفسية، وبين الأسئلة الفلسفية والوجودية.
الرواية تتحدث عن أهداف الحياة، عن أولوياتنا فيها، عن المعنى والقيمة، عن الشغف والأحلام، عن الوعد والعهد، عن الرضا والتحدي، عن الإصرار والرضوخ، عن الرفض والقبول، عن الإرادة والقدر، عن قراراتنا التي علينا اتخاذها طوال الوقت، والثمن الذي علينا دفعه مقابل كل قرار.
أردنا أن نعرف متى ينتهي مشوار الألف ميل، فأدركنا أنه طريق بلا نهاية:
«لا أُخفيك سرًّا: عند الميل الألف لن تجد شيئًا!»
اكتشفنا أن الإنسان يجب أن يمضي في دروب الحياة باحثًا عن سبيل لتحقيق هدفه، متمسكًا بشغفه، مصاحبًا لأحلامه، مستمتعًا بكل خطوة وكل لحظة، مصرًّا على جودتها، لأن الرحلة هي الهدف الحقيقي، هي السعادة ذاتها، وأن مشوار الألف ميل لا ينتهي عند الميل الألف.