آه يا نجيب.. ها أنا أكتب في ذكراك مرة أخرى، ولكن هل توقفت عن الكتابة أو الحديث عنك منذ تعرفت عليك؟ وهل احتاج مناسبة بعينها لتذكرني بك؟ الحكاية معك ممتدة، منذ طفولتي حين سمعت اسمك يخرج من فم جدتي، حين أشارت لي على بيت أسفله قهوة يطل على ميدان بيت القاضي، وقالت لي: “مكان هذا البيت.. كان بيت نجيب محفوظ.. أتمنى أن تصبح مثله” وقتها – كطفل – لم أكن أعرف من هو نجيب محفوظ! ولكن في الصف الثاني الابتدائي وفي أحد دروس اللغة العربية، كان هناك درسًا يتحدث عن صاحب هذا الاسم وأعماله.
بعد هذا الدرس لم أكن أدرك أن هذا الاسم سيلتصق بذاكرتي وقلبي للأبد، وأن بفضله سأذهب لدراسة الفلسفة التي ستغير رؤيتي للعالم بنسبة 180 درجة. فحينها ذهبت إلى مكتبة الكيلاني بباب اللوق، وهي أقرب المكتبات لبيتنا، تلك المكتبة التي كانت جدتي تصطحبني إليها لتشتري لي قصص الأطفال، ذهبت بنية شراء كتاب لنجيب محفوظ، ولكن عامل المكتبة قال لي إن كتب محفوظ متوفرة بمكتبة الشروق فرع طلعت حرب وإنها ليست لديه، ووصف لي الشارع الذي يجب أن أقطعه للوصول لمكتبة الشروق. كطفل في العاشرة من عمره آنذاك.. شعرت أن الشوارع بلا نهاية، ولكنني كنت سعيدًا للغاية فقط لأن جدتي تركتني أذهب وحيدًا معتمدًا على نفسي لشراء كتاب لنجيب محفوظ.
للقراءة| باسم شرف يكتب: كنت أتمنى أن أعيش مثل نجيب محفوظ.. ولكن!
دخلت مكتبة الشروق، وطلبت من عامل المكتبة أن يرشح لي عملًا لنجيب محفوظ، حينها أعطاني الشاب عشريني العمر قمحي البشرة.. الذي احتفظت أيضًا بشكله فقط لأهمية الذكرى بالنسبة لي مجموعة “الجريمة” التي ما إن عدت إلى بيتي حتى قرأتها في يومين، ولكنني أصبت بخيبة أمل حين لم أفهم هذه القصص. عرفت بعد ذلك إنها كتبت برمزية. ولكنني ذهبت مرة أخرى في الأسبوع التالي لشراء واحدة من الروايات التي ذكرت في درس اللغة العربية “خان الخليلي” وقرأت الرواية وانبهرت بها، وكطفل أخذت أتخيل صورًا للغارات وهي تمر من فوق حينا العتيق. والمشاهد التي نجح محفوظ في تصويرها ببراعة شديدة.
دارت الأيام، وقرأت المزيد من الكتب، وتعرفت على أقلام مختلفة، ولكن ظل نجيب هو كاتبي المفضل، تمنيت دراسة الفلسفة لأكون مثله. ولكنني تحايلت على الدراسة الأكاديمية التي ارتبطت بمجموع الثانوية والتنسيق.. بالدراسة والقراءة الحرة. وحين قررت أن أكون كاتبًا بعدما وجدت أن هناك أسئلة تعذبني لا بد من أن تخرج في صورة عمل فني، قررت أن أكتب – رغم التحدي – عن مكان كتب عنه محفوظ قبل ذلك وهو حارة “الصنادقية” وهي الحارة التي تضم “زقاق المدق” والتي قضيت بها أوقاتًا كثيرة نظرًا لوجود محل التجارة الخاص بأبي.
وفي أول لقاء تلفزيوني بعد نشر الرواية، قالوا لي إنني كنت أتحدث – دون أن أدرك – عن نجيب محفوظ بحب شديد، وإنني تحدثت عنه أكثر مما تحدثت عن روايتي. ولكنني لم أرَ إنني أخطأت، فنجيب صاحب فضل ليس فقط عليّ ولكن على كل كاتب عربي. ولكن بالنسبة لي تعلمت من محفوظ الطريقة التي يعبر بها عن الأفكار الفلسفية الكبيرة والعميقة، من خلال شخصيات أشبه لمن تراهم بالفعل في هذه الحارة العجيبة.
وأنه يصل بكتابته تلك لا إلى المثقفين، ولكن إلى العوام، حتى أن بعض كتاباته أصبحت جزءًا من الثقافة الشعبية، وبعض الشخصيات التي خلقها أصبحت جزءًا من الوجدان الجمعي للعرب بغض النظر عما إذا كان الشخص مثقفًا أم لا.. فهل يوجد عربي لا يعرف شخصية سي السيد؟ المقصود به السيد أحمد عبد الجواد بطل ثلاثيته، أو أمينة؟ أو كامل رؤبة لاظ صاحب “السراب” أو محجوب عبد الدايم في “القاهرة الجديدة”. قد تنبهر حين أقول لك إن المشهد الخالد الذي جاء في فيلم “القاهرة 30” لصلاح أبو سيف والمأخوذ من الرواية التي سبق ذكرها، حين جلس محجوب عبد الدايم وعلت رأسه القرون، هذا المشهد ليس من إبداع مخرج الفيلم، ولكن نجيب صوره في روايته كما هو، وأن المخرج أخذه بالحرف.
إنني بالفعل لم أتمنَ أن أكون أحد المعاصرين لمحفوظ، فحين توفى كنت في السادسة من عمري، لأنني بالفعل أرى أن كل جيل إذا ما قرأ محفوظ جيدًا أصبح قريبًا وصديقًا ومقربًا له، فجيل الستينيات، وهو أكثر الأجيال قربًا من محفوظ، اقتربوا منه بفضل كتابته، وأنهم كانوا قراء له. وأنهم تعلموا منه الكثير كإنسان وكاتب.. وهذا ما يستطيع أي شخص فعله سواء رأى نجيب محفوظ رؤية العين أو لا.
لطالما بقت أعمال محفوظ قريبة منا، وقريبة من كل ما يريد قراءتها والتفكير فيها والتعلم منها بالتحديد إذا أراد أن يكون المرء كاتبًا، فأنا بالفعل لا أتخيل كاتب عربي لم يقرأ لمحفوظ، والأمر نفسه بالنسبة لي إذا ما قلت لي إن هناك كاتبًا إنجليزيًا لم يقرأ لشكسبير قبل أن يكتب، أو كاتب إسباني لم يقرأ لثربانتس، أو كولومبي أو لاتيني لم يقرأ لماركيز. فمحفوظ هو أحد هؤلاء العظام الذين شكلوا ما يسمى بالسردية الإنسانية.
هنا تكمن العبقرية، التي تجعل كل كاتب عربي، يكتب الآن، أو سيكتب في أيام قادمة، أو أمسك بالقلم بعد نجيب محفوظ، لا بد وأن يتعلم ويتأمل هذا الاسم جيدًا، ليستفيد ليس فقط من مسيرته الأدبية ولكن من مسيرته الإنسانية أولًا. فهذا الرجل أحب الحياة.. وعشق الموت.. ولذلك.. لم يمت.