فقط حاول ألا تبيع روحك للشيطان!
– هناك الكثير لتتعلمه لو قرأت “فاوست”…
نطق الصوت القادم من الظلال بالعبارة، فانتفض الصبي وتلفت حوله، حاملًا المصباح بيده، محاولًا إلقاء بصيص من الضوء لتلك الغرفة المظلمة المحملة بالغبار وشباك العناكب. لشدة ما كان يخاف من الصعود لتلك الغرفة، لكن جده صمم أن يصعد لتنظيفها، وقد كرر جده بنبرة شاردة وهو يجلس جوار المذياع للاستماع لحفلة أم كلثوم: “لقد أصبحت غلامًا الآن، بإمكانك الذهاب وتنظيف الغرفة بمفردك، وربما بعد هذا سأتركك تجول في أنحاء العزبة”.
ارتجف الصبي، في البدء ارتجف وكادت أن تنفلت من حلقه صرخة لمرأى ظل هائل على الجدار، لكنه سرعان ما اكتشف أن هذا هو ظله هو، فابتلع ريقه وتمسك بالمصباح الزيتي، وتمتم لنفسه: “كن شجاعًا… كن شجاعًا…”
تلك العبارة التي يرددها منذ أن وجد نفسه يقيم مع جده العجوز في تلك العزبة الريفية. “أين أمي؟ أين أبي؟”… يشيح جده بوجهه ولا يرد. أحيانًا يشعر وكأن التجاعيد الماثلة فوق قسمات وجه الجد سوف تنفصل عن صاحب الوجه مكونة وجهًا صارخًا يطارده في أرجاء العزبة ليلًا…
– “كن شجاعًا”
يردد الصبي، أم إنه غلام على حد قول جده؟ لا يهم، عليه أن يتحلى بالشجاعة.
لقد تمتم جده ذات مرة بشيء ما عن حريق القاهرة الكبير، وكأن في هذا إجابة لسبب الاختفاء المفاجئ لأهل الصبي، وقدوم جده ليأخذه للإقامة معه…
كل ما يتذكره أن أمه ابتسمت له وأغلقت باب غرفة نومه، ولمح والده قبل انغلاق الباب، يعلق طربوشه فوق العلَّاقة بغرفة المعيشة. تلك هي المرة الأخيرة التي رأى فيها والديه. خلد للنوم بعدها، ليستيقظ شاعرًا بوهن… هل تلك رائحة دخان؟
بعدها وجد نفسه هنا…
في العزبة…
العزبة الشامخة أمام الوادي، هناك حقل أخضر طويل الحشائش مترامٍ أمامها، وسياج حديدي مستدير يحيط بها، وتل صغير قريب. بخلاف هذا، الأرض قاحلة وتمتد أطرافها إلى ما لا نهاية، موحشة، لا أنس بها ولا رفيق. العزبة نفسها كانت مصممة على الطراز المملوكي. لم يكن الصبي يعرف ما هو الطراز المملوكي، لكن هذا ما غمغم به جده في إحدى ليالي الخريف وهو يلعب الزهر.
– “مع من تلعب الزهر؟”
يرفع الجد رأسه ببطء، ويرتسم ظله على ملامحه كأنه سوف يسبقه بالإجابة، ويقول بينما حاجباه الكثَّان يتدليان من جانبيه: “مع ظلي، بالطبع…”
يتنهد الغلام. لقد أصبحت تلك حياته الآن، مع جد يلعب الزهر مع ظله في عزبة كبيرة بلا خدم، أثاثها عتيق، جدرانها مزينة بمئات اللوح لأناس وجوههم مخيفة. يبدون شديدي القدم، وكأن أحدهم صورهم أو رسمهم منذ مئات الأعوام، وعيونهم تحدق بك أينما ذهبت…
ثم يأتي أمر السقيفة… العلوية… الطابق العلوي… أيًّا كان المسمى، فلقد كان الغلام يكره هذا الطابق.
يحلم بعشرات الظلال ذات أعين زرقاء محدِّقة يقتربون منه، وكلهم قادمون من هذا الطابق…
والآن هو هنا…
في سقيفة العزبة…
خائف، يرتجف، لكنه يرفع المصباح بشجاعة رغم هذا…
عندما سمع الصوت القادم من الظلال:
– “هناك الكثير لتتعلمه لو قرأت فاوست.”
بدا أن صاحب الصوت مسخ يختبئ في الظلال، أو رجل عجوز متوارٍ، أو ربما هو غول من القصص التي قرأها الصبي من قبل. لم تكن هناك فرصة للتفكير، لأن صاحب الصوت، وحقًا كان صوتًا عميقًا ورهيبًا، ساخرًا وقانطًا، أجشَّ وناعمًا، قال:
– “لا تهرب يا غلام.”
“إذن هو غلام وليس صبي، صاحب الظل أكد تلك المعلومة.” ينفض الفتى الفكرة عن ذهنه، بينما يردف رجل الظل:
“حتى أنا بحاجة إلى الأنس، إلى مشاركة ما أعرفه. لم يأتِ أحد إلى السقيفة منذ سقوط بغداد ودحر قطز لزحف التتار.”
“التتا… من؟”
“لا يهم هذا الآن. أنت هنا الآن، وهذا يكفي. لن يفيد بشيء الرثاء والحنين لماضٍ عميق. ما اسمك يا غلام؟ كلا، لا تجب. أنت الغلام وهذا يكفي.”
لوهلة بدا أن رجل الظل… وسقط قلب الفتى في معدته رعبًا. خيل إليه أنه يرى انعكاس عيني قط أسود اللون، ومع تموج الظلال لمح جسد رجل فارع القامة يجلس منحنيًا، مرتديًا عباءة سوداء طويلة. عدا ذلك، لم يكن هناك سوى الظلال وشباك العناكب…
“دقات قلبك تزعجني يا غلام. هلّا هدأت قليلًا؟ وأحكمت جماح أفكارك تلك؟ أنت تفكر في عشرات الأشياء في نفس الثانية…”
هز الفتى رأسه، وكأنما رجل الظل قد رأى تلك الإيماءة، فقد أردف: “والآن… ما الذي كنت بصدد قوله لك؟ نعم… هناك الكثير لتتعلمه لو قرأت فاوست.”
– “من؟”
– “فاوست… الطبيب فاوستس، الخيميائي والمنجم وعالم الفلك والمغامر ومقدم عروض السيرك، والعالِم والفيلسوف…”
تلفت الصبي حوله، فضحك رجل الظل. بدت ضحكته مباغتة، وترتج لها جدران السقيفة بأكملها قبل أن يتابع: “علامَ تتلفت؟ قلتُ أني سأحكي لك حكايته، مسألة رؤيته أمر آخر… والآن… أعطني أذنيك…”
اتسعت عينا الفتى ذعرًا، ثم فهم أن رجل الظل لا يريد حقًا انتزاع أذنيه لمضغهما، بل يبغي استماعه. فوقف الصبي، حاملًا المصباح، في غرفة السقيفة بالعزبة ليلًا، وبدأ رجل الظل يحكي:
اتسعت عينا رجل الظل، وقال: “كان يا ما كان… كان هذا في عام 1593، عندما قدم المؤلف كريستوفر مارلو كتابًا مستوحًى من شخصية حقيقية تواجدت في ألمانيا قرابة عام 1500 إلى عام 1540، ألا وهي شخص د. فاوستس. وقد عرفه العامة باسم فاوست، وأصبح أسطورة ألمانية شعبية، من قبل أن يكتب عنه كريستوفر مارلو كتابه، أو يرسمه الرسام يوحنا عام 1530. وظلت الأسطورة تتناقل عن الرجل حتى حفرت آثارها في الوجدان الجمعي…”
“لوحة زيتية لجوهان جورج فاوستس، أو فاوست.”
فاوست، الذي أبرم صفقة مع إبليس نفسه، صفقة بسيطة للغاية وواضحة التفاصيل مع الشيطان، وتنص على:
“يحصل فاوست على المعرفة الكاملة وكل الملذات الدنيوية مقابل إعطاء روحه للشيطان. ولكن سيكون الشيطان جنيًّا مطيعًا له طيلة حياته. ولا داعي للقول إن الأخير لا يلتزم بهذا الجزء. وآخر بند في الاتفاقية أن الشيطان سيحصل فحسب على روح فاوست في حالة تمكن الأخير من بلوغ درجة السعادة الكاملة.”
“صورة لفاوست في الفيلم الألماني الصامت.”
وتناقل العالم تلك الأسطورة الشعبية، وكتب عنها الكثيرون… ثم، في عام 1806، قدم الكاتب والفيلسوف الألماني ذائع الصيت، غوته، الجزء الأول من مسرحية فاوست، وأتمها بالجزء الثاني قبل رحيله، ليتم ملحمة أدبية رهيبة ترتجف لها الأبدان.
يمكنك تعلم الكثير من قراءة تلك المسرحية…
أو مطالعة تاريخ فاوست نفسه عبر الحكايات الشعبية.
“فاوست مع الشيطان عقب إبرام صفقتهم.”
وبعدها، في عام 1926، أتى عبقري ألماني، واسمه “ف. و. ميرانو”، وقدم أحد أهم وأقوى الأحلام – والكوابيس – السينمائية، ألا وهو فيلم فاوست من إنتاج عام 1926. فيلم ألماني صامت، لو شاهدته، بمشاهده وحركة ظلاله وممثليه وأداء فاوست والشيطان والبطلة، والموسيقى التصويرية، ستشعر وكأن عقلك سينفلق من فرط الفن، وأن روحك صافية، وبالك رائق. ستشعر بمخيلتك، وتسمع دقات قلبها، وربما تحتضنها كذلك ليفعم عطرها الجميل روحك…
صورة لـ “ف. و. ميرانو”، الذي يُعد أحد عباقرة السينما، ومن أشهر أفلامه فاوست ونوسفيراتو، المقتبس عن رواية دراكولا لبرام ستوكر.
والآن، أين كنت؟ نعم… فاوست. هل تعلم أن ف. و. ميرانو، في فيلمه الرهيب، مزج بين حكاية فاوست وألف ليلة وليلة، وقدم تراثًا عربيًا جذابًا للغاية في الفيلم كذلك؟
“صفحة أولى من كتاب من العصور الوسطى عن د. فاوستس أو فاوست.”
ثم يأتي هذا المشهد الشهير من الحكاية والمسرحية والفيلم الصامت:
فاوست يجلس واجم الوجه، حزينًا، شاردًا، بعد جولاته العديدة، فيصيح الشيطان محنقًا:
“لماذا لم تبلغ السعادة؟ ما الذي تريده؟ هل تريد امرأة؟ هل تريد مملكة الإمبراطور؟ هل تريد النفوذ والجاه والمال؟”
فيتذكر فاوست السيرك وموطنه الأصلي، ويجيب أنه يريد العودة إلى موطنه… ليعتلي البساط السحري مع الشيطان ويعود إلى موطنه، ليجد أنه قد أصبح أرض خراب، ولم يعد كما كان يتذكره.
لم تكن تلك بأمنيته الأولى، فأول ما اشتهاه كانت امرأة، حورية فاتنة الجمال من حكايات ألف ليلة وليلة. وتستمر جولات فاوست…
يبغي المعرفة الكاملة…
كشف أسرار الحياة…
كل الملذات الدنيوية ..
والمقابل هو روحه ..
لكن باله لا يهدأ ابدًا..
رسمة لفاوست..
ثم يقع فاوست في غرام فتاة جميلة..
ونجد أنفسنا ننتقل في القصة لرومانسية جميلة غير متوقعة، فيجن جنون الشيطان، ويدبر المكائد ويشعل الغيرة والغضب ونيران الحقد في قلوب العامة والقوم ليدمروا قصة الحب تلك ويحرقوا الفتاة متهمين إياها بالهرطقة والسحر، ويفقد فاوست شبابه ويصبح عجوز هرمً بعدها..
في الفيلم يلعب ميرانو على وتيرة الشباب والخلود والشيخوخة بشكل مبهر.
مشهد وقوع فاوست في غرام الفتاة
مشهد من الفيلم يحمل طيات حكايات ألف ليلة وليلة
وعودة إلى مسرحية “غوتة” الملحمية، التي تعد عملاً أدبيًا مرعبًا ومبهرًا، يستفيض الجزء الأول منها في دراسة مدى العمق النفسي والتطور في شخصية فاوست، لينتقل الجزء الثاني منها ليعكس المجتمع وفلسفة الحياة بأسرها.
ولربما من أهم اقتباسات مسرحية فاوست للفيلسوف غوته هو: “إن المرء يرى العالم بما يحمله في قلبه”.
وأيضًا: “كل النظرات رمادية باهتة اللون عديمة الوضوح، لكن الأشجار ستظل دومًا خضراء”، مشيرًا إلى الفرق بين الصواب والخطأ، الأبيض والأسود. في النهاية، فإن حكاية فاوست تريك قدر الظلام وقدر الخير الكامن في النفس البشرية، على حد قول المحلل النفسي كارل يونغ.
وفي كل من المسرحية والفيلم الخاص بميرانو، ستجد حسًا فكاهيًا ساخرًا، يتكرر كثيرًا في أكثر أعمال أدب الرعب والفلسفة سواء، وكأنما هناك ابتسامة خفية ساخرة لمجرى الأمور.
وتمكن كل من الكاتب والمخرج من تقديم عنصر الخير والجمال في كل ذلك، لأن فاوست يدرك في النهاية فداحة تهوره. وبعد تحديقه في الهاوية، يشعر بالنور والجمال والخير، لأن قلبه ينبض، رغم كل محاولات رفيقه المظلم.
انتهى الرجل الظل من حكايته، وظل الغلام متسمّرًا في موضعه حاملًا المصباح.
أشار الرجل الظل، بمخالب طويلة ظهرت فجأة، للغلام أن يرحل، فاستدار الأخير بوجه شاحب وفر من السقيفة.
عاد وهو شاحب الوجه إلى الطابق الأول بالعزبة.
ثم وقف أمام لوحة زيتية عملاقة لسيرك من العصور الوسطى، سيرك في بلد عربي أمام قلعة مهيبة، وسمع صوت جده من خلفه يقول: “تلك لوحة تخيلية للحظرد لسيرك من عصر هارون الرشيد.”
كان صوت أم كلثوم لا يزال ينبعث من المذياع.
“يا اللي ظلمتوا الحب…”
لكن الغلام كان شارد الذهن، يفكر في فاوست. ربما لو كان انتبه قليلًا لأدرك أنه لم يترك انعكاسًا في المرآة، وكذلك لم يفعل جده.
ربما حينها كان ليتذكر أنه لم ينجو من الحريق، وأن أمه الثكلى لا تزال ترثيه، ووالده يبكي ليلًا دون أن يراه أحد.
ربما لكان عرف سبب قدوم جده بتلك العربة القديمة التي تجرها الخيول لأخذه.
شبح صغير يقيم مع شبح جده – جد كل أجداده للدقة – في عزبة لن يراها أحد سوى واسعَي الخيال فحسب.
أما الرجل الظل، في العلوية، فقد تراجع وتمتم بصوت أجش: “سيعود الغلام، روحه شديدة الفضول ويبغي المعرفة، لربما المرة القادمة أحكي له عن روبن هود أو عنترة بن شداد أو حي بن يقظان أو أوليفر تويست الصغير واليتيم الذي فقد طريقه في ضواحي لندن، ربما أحكي له عن الأساطير اليونانية وما نبض به قلب شهرزاد، أو روبن هود والفرسان الثلاثة ودراكولا والمستذئب، ربما أحكي لك الكثير…”
ثم يستدير الرجل الظل، وينظر إلينا بعيني قط لامعتين ويردف: “ما رأيكم أنتم؟”