“ميت مطلوب للشهادة” للكاتبة د. سمر عبد العظيم، مجموعة قصصية تحتوي على 17 قصة أبطالها قد رحلوا وتتنوع فيها أسباب الوفاة ما بين جنائية وحالات انتحار وقتل خطأ وكذلك الغرق. مع كل قصة محاولة للكشف عن الأسباب التي أوصلت المجني عليه إلى غرفة المشرحة والوصول إلى مواصفات الجاني، من تعدد حالات الموت تتأكد من عنوان الكتاب “حكايات من أروقة الطب الشرعي” أكسبتها حياتها العملية خبرة بكل الحالات حتى تكاد تصدق أنها بالفعل تسمع الموتى.
منذ العنوان يقفز إلى ذهني سؤال عن تصنيف العمل فتظن أنك ستجد مشاهد رعب، التي سرعان ما يذهب تأثيره ثم مع المقدمة تجد وجبة ثقافية ممتعة مبسطة عن الطب الشرعي ونشأته في عجالة تناسب جميع القراء، وتمهيد لمعرفة أهمية الطب الشرعي ودوره في كل قصة وكيف تغير مسار كل حالة، ثم بعد ذلك تجد بعض القصص تندرج تحت أدب الجريمة وبعضها سيكولوجي وأخرى تتعلق بالمجتمع.
خالد أمين يكتب: ما حكـــته لي شهرزاد!
مع نهاية كل قصة بعد أن تندمج معها بمشاعرك وتدخل في حالة حزن تعاطفا مع المجني عليه أو كرهاً في الجاني تجد الكاتبة تخرجك منها برأي الطب الشرعي والعلم في ظروف كل حادثة، لتجد نفسك انتقلت من أدب القصص القصيرة إلى كتاب به مادة علمية، لعل هذا هو ما كسر الشعور الذي تملكني ليخبرني أن الأمر قصة لا حقيقة.
تميز الكتاب باللغة العربية الفصحى وإتقان السرد وتشعر أن هناك كاتبتان وليست كاتبة واحدة، فتكتب مرة بقلبها وبإحساسها المرهف، تشعر بأبطالها تعبر عنهم بأسلوب أدبي ساحر، وأخرى تكتب بعقلها بأسلوب علمي كطبيب جراح لا يعبأ بكل تلك المشاعر، تتحدث عن موتهم بشكل عملي، تعلق على كل حادثة فهي تلعب بمهارة في منطقتها منفردة كما أبدعت في الأدب.
رعب أم مأساة
تبحث الكاتبة من خلال قصصها عن مكامن الوجع في كل قصة لنشعر بهم ونتجنب الوقوع في ذات الموقف، توقعت مشاهد مرعبة لكني وجدتها موجعة يدمى لها القلب، مع كل حكاية أقف مكان القتيل أتعايش مع لحظات الموت وأعود معه للوراء لنرى كيف أوصلته الظروف لتلك النهاية. لا تتوقع أن تجد رعباً يحفز لديك إفراز هرمون الدوبامين والأدرينالين ليشغلك عن حقائق كثيرة تريد أن تغيب عنها بل مشاهد تجعلك يقظ مترقب لما يحدث وإثارة لمعرفة الخيوط التي ستقود إلى الجاني، وفي نفس الوقت تجد آلام وجراح لضحايا قد رحلت، كنا نود أن نعرف قصص رحليهم وما الذي أوصلهم إلى طاولة التشريح؟ لعل الإجابة تعطي لنا دروس في الحياة لنفهم ونحذر من تكرارها.
الواقع يندمج مع حكايات الخيال
كل قصة كانت من الممكن أن تصبح رواية لوحدها، ربما مستقبلاً نرى إحدى القصص تتحول إلى رواية فهي مليئة بالأفكار وبعض القصص تمثل قصة قصيرة مكتملة. استقراء لغة الموتى كانت هي المهمة وبمهارة تملكها الكاتبة استطاعت أن تعبر عن مشاعر كل ميت لدرجة أن هناك بعض القصص تخيلت وكأنها حدثت بالفعل، فنقلت كثير من حكايات غرفة التشريح بشكل مؤثر من مشاعر كل متوفى مرت عليها في حياتها العملية وقصص من صنع خيالها فلا تستطيع أن تفرق بينهما. تعايشت مع كل قصة على حدة وتأثرت بحزن شديد تكاد تبكي في بعضها لولا أن القصص قصيرة وقطعها الهامش برأي الطب الشرعي لاستمر الحزن.
فرصة للأموات
أعطت الكاتبة الفرصة لكل ميت أن يدلي بشهادته لطبيبه الشرعي، فهو آخر من يقترب منه من البشر والقادر على استنطاقه ليكشف عن أسراره ثم يحللها، لنعرف أنه في كثير من الحالات أن العامل النفسي هو سيد الموقف لو استطعنا أن نعالج كثير من مشاكلهم النفسية قبل أن تتفاقم وتصل إلى التفكير في الانتحار أو منع الجريمة لتغيرت نسبة الموت بشكل كبير.. ويملك تلك المهارة بالتواصل معه فهي تحتاج إلى قدرات خاصة لا تجدها إلا في الطبيب الشرعي الماهر فهو قادر بقلبه ومشاعره وعلمه أن يستنطق الميت عندما يهم بتشريح جثته ولكن ليس كل الأطباء يملكون تلك المهارة فتكتشف أن الحظ ما زال يلعب دوره مع الإنسان حتى في وفاته، فكيف من يقع بين يدي طبيب شرعي يخفق في قراءة وترجمة ما يقوله الميت من أسرار من الممكن أن تنقذ بريء من جريمة لم يفعلها؟
“الموتى لا يبوحون بأسرارهم لأي شخص فمن الممكن أن يقف أكثر من شخص في دار التشريح في مناظرة جثمان ما و لا يبوح الميت سوى لأحدهم وللميت مشاعر لا يقرأها إلا من كان بقربه”
الغلاف جاء بسيطاً سهل قراءته حيث عنوان العمل وكأنه ملف تحقيق، وظهور البصمة إشارة للبحث الجنائي ثم النظارة التي تمثل رؤية الطبيب الشرعي وكشف الحقائق بنظرته الثاقبة، ولكن لم نجد أي صورة لغرفة التشريح أو ما يمثل أحد الجثث ربما ذلك مقصود حتى لا يأخذ الغلاف منحنى آخر عن المحتوى فيظهر تصنيفه رعب.
قصص مميزة في “ميت مطلوب للشهادة”
“أعذريني” من روعتها قرأتها مرتين و”مراكب النجاة” كانت أليمة تتحدث عن الهجرة غير الشرعية والموت غرقاً، فقد هجر الوطن خوفاً من المجهول لكنه ذهب للمجهول بنفسه وقد مات ويديه تمسك على فراغ وكأنها أحلامه أصبحت سراب تشبيه مثالي.
“حرية حبيسة” من القصص العميقة وبها إسقاطات عن الظلم والبلطجة والمتاجرة بالذين سقطوا ضحايا هتاف الحرية ومنهم من انساق وراء الآخرين ليقع ضحية الغدر والخيانة في وقت كان يطالب بحريته ممن لا يملك أن يعطيه!
“كان أبوهما صالحا” من القصص التي يتضح فيها قيمة العمل الصالح، فأظهرت الحسد والحقد شر من الممكن أن يفتك بك فاحذر، ولكن العمل الصالح يرد كيد الحاسدين مع أن الأب رغم صلاحه قد ظهر بشكل سلبي ومتسامح.
“من أجل عزلتي” موجعة للقلب فالخيانة مع من كانت تحتمي بالعزلة من الناس هي موت آخر لها، و”أخبروا أبي” كانت أقلهم في المتعة. “سيد الأدلة” بعد استخدام الحمض النووي كدليل لم يعد الاعتراف سيد الأدلة فربما هناك اعتراف ولكنه ليس الحقيقة ليخفي الجاني الأصلي أو اعتراف تحت تهديد وقد حدد الطب الشرعي أن كل دليل يجب أن يخضع لنظرية التثليث أي كل معلومة وجب التأكد من صحتها من مصدرين مختلفين.
أجمل الفصول في “ميت مطلوب للشهادة”
وأجمل ما في الكتاب هو الفصل الأخير وتعليق الكاتبة على العمل، فصل يحتاج أن تفرد له الصحف مقالاً كبيراً يقرأه الجميع، ربما هو أهم فصول الكتاب حيث تتلخص فيه رسالة الكاتبة وهو ما دفعني أن أعطي العمل العلامة الكاملة. “ميت مطلوب للشهادة” هو محاولة لاستخدام القصص لمساعدة القارئ على أن يفتح أفقه ليسأل السؤال الجيد ولا يقبل إلا الإجابة الجيدة.
ملاحظات على العمل
– في القصة الأولى “ضمير مسجون” هناك تشابه بينها وبين مشهد من فيلم وداعاً شاوشانك، الرجل الذي قضى حياته في السجن وعندما استرد حريته لم يجد لها قيمة كان يتمنى لو بقى في السجن حيث حريته التي اعتاد عليها أو الموت هو السبيل لتحرره فلجأ إليه.
– هناك قصة “سيد الأدلة ” أحداثها لا تتشابه مع مجتمعنا حيث يعامل السجين معاملة حسنة وإنسانية مهما كان جرمه، وهو ما لم نعتاد عليه جعلني أشعر بالفارق الرهيب هنا وهناك واختلف أسلوب السرد ليلائم بيئة القصة.
– هناك أكثر من قصة أبطالها ينتمون إلى المجال الطبي، كنت أتمنى أن نبتعد عنه قليلاً حتى لا ينحصر الأمر في نفس المجال.
– قصة “سيد الاعترافات” كانت تتويجا لكل القصص وحديث من روح المتوفى لكل القلوب بشكل فلفسي وأدبي يعبر عن حقيقة الموت الثابتة التي يجب الاستسلام بها، يتحدث هذه المرة من خارج غرفة التشريح من مثواه الأخير فهي قصة أخرى كانت تستحق أن تكون الأولى والأخيرة.
– تعرضت الكاتبة لموضع عدم تحلل بعض الجثث وأن لذلك أسباب علمية، فليست جميع الجثث تمر بمراحل التعفن والتحلل، إذ أن بعضها تمر بتغيرات إذا كان مكان الدفن رطب بنسبة زائدة، أو حدوث ما يسمى بـ”تصبن للجثة” وهو أن الدهون في الجسم تتحول لمادة تشبه الصابون تحافظ على شكل الجسم ويظل كما هو، ولكنها لم تحسم الأمر بشكل كامل عندما يتعلق بالدين، قائلة “غير أن للبعض كرامات” لأنه موضوع شائك يدخل في الثالوث المحرم حيث هناك جثث لا يأكلها الدود، وذلك لم يرد في أدلة الكتاب والسنة ما يفسر وقوع هذه الظاهرة لغير الأنبياء، سواء للشهداء، أو العبّاد الصالحين، أو الأولياء فتركت الأمر مفتوحا، في حين صرح الدكتور أيمن فودة رئيس مصلحة الطب: أن عدم تحلل الجثة لا علاقة له بالدين، بل هو أمر علمي في الأساس.
– أثارت الكاتبة في ختام الكتاب سؤال مهم هل التكنولوجيا قادرة على القيام بدور الطبيب الشرعي مثل كثير من المهن وبشكل أدق هل ممكن أن يقوم الذكاء الاصطناعي بدوره؟ كما تخيلت نفس السؤال للطبيب النفسي فربما نجد تطبيقات تتحدث مع المرضى النفسيين تسمعهم وتصف لهم العلاج وأسلوب الحياة.
– من قراءتي في الطب الشرعي كثيراً، قفز إلى ذهني سؤال عن تأثير هذا العمل على الحياة الخاصة للطبيب الشرعي الذي يتعامل مع الجثث وأجزائها وتشوهاتها وكيفية حدوث الوفاة، مجرد ما قرأت من قصص تأثرت بشدة وبحثت عن أي مخرج من هذا المزاج الذي انزلقت فيه، فكيف بحالهم فربما يفقدون كثير من متع الحياة.
– شكراً للكاتبة سمر عبد العظيم على هذا الكتاب الذي ربما يكون الأول من نوعه يثري المكتبة العربية، فربما نجد مستقبلاً كتاب آخر يتحدث بنفس النمط على مواضيع كثيرة في حياتنا مع كل قصة نجد هامش يوضح السبب العلمي في ذات المجال.