سمير محمود (نقلا عن جريدة العرب)
أعادتني رواية «لعبة البيت» للكاتبة والشاعرة المصرية إيمان جبل، لأجواء رواية البؤس للكاتب الأميركي ستيفن كينج، كما ذكرتني بكتاب للمفكر الفرنسي بيير بورديو، بعنوان «بؤس العالم» والتي طرح فيه نقاشا للأسباب الخفية التي تجعل الحياة أمرا لا يطاق، ففي “لعبة البيت” تسيطر أجواء الخوف من المجهول وتتبع الشخصيات أهدافا في غاية الغموض، مع تنفيذ أوامر واجبة الطاعة، لتستمر الحياة.
هكذا، تفيق “ماتيلد” لتجد نفسها في غرفة مظلمة بحوائط صلبة، على عكس غرفتها التي دائما ما تكون منيرة باعثة على الحياة، وهناك سرير صغير، وكرسي ومنضدة عليها سكين، وخمس تفاحات، ومصدر إضاءة يحمل لغزا عجيبا.. وفي منتصف المنضدة قلم وعدة أوراق. سلسلة من الأحداث الغامضة تعيشها “ماتيلد”؛ بسبب تلك الأوراق، وأسرار عائلة عريقة تكشف لأول مرة؛ لتضفي مزيدا من الغموض والإثارة على ما يحدث.
سجن الذكريات
بهذه الأجواء من الغرابة والإثارة والتشويق، مهدت الكاتبة للدخول في صلب الحكاية، التي جعلت البيت بطلا لها وسجنا كبيرا فيها، يتحكم في الأحداث ويحركها ويتحكم في الشخصيات ومصائرها، وقد تحول بامتداد الرواية إلى سجن للأفكار والأحلام بل وسجن للكتابة نفسها، في عائلة كلها أدباء وكتاب، عائلة تعاني عقدا نفسية لا حصر لها، بين الأب سالم الذي يزهو بابنه مراد الذي أنجز أول رواية في حياته في عمر الخامسة، والذي صارت كتاباته هي الأساس الذي تعوّل عليه الأسرة في تخليد اسمها، والأم جيهان الكاشف التقليدية الجافة التي تعتز بأصولها وترى كل البشر دونها، كما تعاني من عقدة موت حبيبها يوم ولادة ابنتها ليلى فصارت الابنة نظير شؤم لا تشعر تجاهها بأيّ عاطفة أمومة تذكر.
أما ليلى الابنة التي ابتلعت كل عقد البيت وتحملتها، بين نزوات أخيها مراد مع الساقطات بطلات رواياته، ودورها في تربية ابنته ماتيلد بعد وفاته وفرار زوجته الأجنبية سارا الوحيدة التي نجت من لعنة البيت وسجونه، وعقدها بحثا عن الحقيقة والحياة والحرية طيلة عشرين سنة نست فيها نفسها، حتى كان خلاصها في آخر سطور الرواية مع حبيبها الكاتب عاصم فريد، وهناك ماتيلد ابنة الأخ مراد، شيطان البيت الصغير الذي ورث كل لعناته وبخاصة لعنة الأب مراد، وهكذا كانت الأسرة تلاحق المجهول ولا تعيش الحياة بل تجترّها وتسترجعها من ألبومات صور الماضي الذي تم تجميد لحظاته ومعها تم تعليب الحياة، حين أصبحت شبه مستحيلة في الواقع لكل فرد من أفراد الأسرة، ولا نجاة من السجن والخوف من المجهول، مهما تعددت محاولات الخلاص في الرواية. وقد نجحت الكاتبة في وضع قرّاء العمل في أجواء نفسية ضاغطة وكئيبة لرواية نفسية بامتياز.
المكان في هذه الرواية محدد ومحدود بدقة فائقة، مكّن الكاتبة من بناء سرديتها وتشييد عوالمها الواقعية والخيالية بإحكام وإتقان، فالبيت هو البطل وقد تحول بتفصيلاته الخانقة وإضاءاته الغريبة إلى سجن رمزي، سواء غرفة السجن السفلية لتنفيذ رغبات الأب بكتابة رواية، أو بيت الكتابة الملحق بالبيت حيث يجلس مراد، ويتخذه ساحة لعربدته ونزواته التي يترجمها لكتابات وروايات، وفيه عاش خياله ومات محترقا في الواقع.
للقراءة| أحمد مدحت سليم يكتب: “الديناصور”.. كيف تصل للجوائز الأدبية بالبساطة؟
بلغة شاعرية صنعت المؤلفة أجواء الخوف والغموض والتردد والوساوس النفسية المطلوبة لتحريك الأحداث، فعبرت عن روح المكان الذي يختنق بقاطنيه، حتى نوافذ الحياة القليلة، كانت كلها خارج البيت، حيث الجامعة والمقاهي ومحطات البنزين ملتقى يجمع ليلى وحبيبها الكاتب الشاب عاصم توفيق، وهي أماكن ثانوية عابرة تمرّ كطيف سريع، يعقبه ظلام ووحشة وكآبة البيت، حتى بيت عاصم الذي فيه خلاص ليلى من هذه العقد، لم تهرب إليه سوى ليلة واحدة ثم عادت إراديا إلى سجن البيت وعتمته، لتواصل الموت البطيء مع أسرة تقليدية تعيش حياتها على ألبومات صور وذكريات الماضي، ورسائل البريد المتبادلة في زمن تجاوز هذه الأدوات والوسائل قبل عقود.
الخوف أحد الأعراض والأسباب النفسية التي تحكمت في تصاعد أحداث الرواية، حتى البيت نفسه صار سببا لغربة قاطنيه. تكتب جبل “هنا في هذه البيوت نصنع غربتنا بصفة رمزية تنوب عن المنفى والهرب والتشرد، نصنع بلادا بقلب البيوت المعمرة بالخوف. البيوت التي نمت داخلنا كخطيئة لا يكفر عنها سوى السكن فيها. من الخوف إلى الخوف، من الخوف إلى الغربة، من الغربة إلى البيت الخائف، البيت المشرد، البيت الحزين. هل سأكتب عن البيت؟ ما الفرق أصلا بيني وبين البيت؟ وكيف يمكن أن أفصل كلا منا عن الآخر كي أتمكن من استخلاص قصتي؟”.
الخلاص المستحيل
الرمز أيضا من التقنيات التي وظفتها الكاتبة في الرواية بتفرد شديد، سواء تصميم البيت أو إضاءاته، أو حتى السوار الذي أهدته والدة عاصم لابنها ليمنحه لمحبوبته ليلى.
لم تتوقف محاولات الجميع للنجاة والخلاص من لعنة البيت، حتى الخلاص بالكتابة للفكاك من سجن الأيام، لكن بعض المحاولات جاءت مشوهة، مثل رواية ماتيلد المنسوخة من مذكرات ويوميات عمتها ليلى، أما ليلى ذاتها فهربت بالنحت على جدران وأسقف البيت، وحاولت الكتابة بتردد وخوف يشبه العجز، ضاعف من هذا الشعور فقدها حنان الأم ومعاناتها من أنانية الأخ وتوحش الأب وتجبّره عليها، وهو البناء النفسي المحكم بإتقان لشخصيات الرواية.
وتظلّ فكرة الحرية والخلاص من سجن البيت والحياة والأفكار، هاجسا يسيطر على الجميع، الوحيدة التي كسرت جمود سجن البيت وتغلبت على قيوده هي سارا زوجة عاصم ويبدو هذا منطقيا فهي غريبة ليست من الأسرة ولا تربطها بها أيّ صلة قرابة سوى زيجة تعيسة من مراد، وقد أصابها البيت بعقدة نفسية عميقة وجرح نازف لا يندمل، وهي ترى زوجها مع نساء الليل في معتزله الكتابي أو بيت الكتابة الملحق بالبيت الكبير، حتى توقفت حواسها وأصابها الوهن وتبدلت من وردة ندية زاهية إلى بقايا إنسان محطم نفسيا، ثم عادت لها حواسّها تباعا ولحظتها أدركت أن خلاصها يكمن في الفرار والهروب من البيت، تاركة خلفها قطعة منها هي ابنتها ماتيلد شيطان البيت التي ورثت كل الشرور من والدها ومن لعنة البيت، لدرجة أنها حين أرادت الخلاص من سجنها كتبت رواية منسوخة من دفاتر يوميات ومذكرات عمتها ليلى، وكما سرقت عمتها على الورق في محاولة للخلاص من السجن، حاولت مرة أخرى سرقة حياتها بالتقرب لحبيب العمة عاصم ومحاولة استمالة قلبه.
وهكذا بدت مأساة ليلى مكتملة الأركان في صبرها وبحثها عن الحياة والحقيقة والخلاص والحرية طيلة عشرين سنة من عمرها، وقد فشلت محاولاتها للنجاة، إلى الدرجة التي أسست فيها مع أخريات “نادي الفواجع السري” ومن اسمه تظهر دلالته، فهو ناد لبوح المقهورات من الحياة وضغوطها وظروفها وقسوتها، حتى هذا المخرج الرمزي خارج حدود سجن البيت، تلصصت عليه ماتيلد وانكشف أمره، وسرعان ما أغلق أبوابه.
وهكذا لم تعش ليلى حياتها طيلة أحداث الرواية، وإن أطلقت الروائية سراحها في السطر الأخير، بانتقالها للعيش مع حبيبها عاصم خارج البيت بعد موت والدها ووالدتها وأخيها مراد.
يذكر أنه قد صدر للكاتبة والطبيبة البيطرية الدكتورة إيمان جبل، مجموعتان قصصيتان بعنوان “من ينقذ بحيرة البجع؟” و”لا أحد ينجو من آنا فونتينا”، كما صدرت لها أيضا رواية ”قيامة تحت شجرة الزيتون”.