تعاني فلسطين من قسوة الاحتلال.. وسط صرخات ملايين الفلسطينيين دون أن يلتفت العالم، كأن لا آذان له. صمت يقتل قلب فلسطين، صمت يقتل المئات والآلاف.
في شهر يونيو الجاري وبعد مرور 9 أشهر من الحرب على غزة، لا زال الصمت حاضرا.. تسلط مدونة دار دونِّ للنشر والتوزيع الضوء على فلسطين، وفيما يلي مشاركة للكاتبة مروى جوهر عن فلسطين:
للقراءة| 75 عاما على النكبة.. كيف تطور تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي في فلسطين؟
يمتزج الألم في قلبي بمرارة في الحلق أستشعرها كل ليلة منذ السابع من أكتوبر 2023، أحدث نفسي بأن قطعة من الحلوى ستُذهب المرارة بعد قليل، لأكتشف أن طبيعة الأشياء قد تغيرت والحلو انقلب إلى مر! يُحدثني مخي بتعجب وأين كُنتِ قبل هذا التاريخ؟ هل شاء الله لنا أن نولد من جديد؟ أحتار بينما يتحول مخي إلى شاشة تتنقل بين مشاهد كثيرة مُتباعدة لا تمت لبعضها بصلة، أغلق هذه الشاشة وأقرر أن أسكب شعوري هنا على شاشة الحاسوب، لينساب شلال من المشاعر أحاول أن أملأ منه القليل من المياه، فتظهر على هيئة كلمات تواسي بعضها البعض قبل أن تواسيني.
هنا سأتحدث بحرية دون تقييد.. دون تفكير.. أسرد جزءً من حياتى يتعلق بـ “فلسطين” الجريحة على مراحل عمري، لأرى خيط الذكريات السميك ذو الرائحة العطرة يطوق قلبي فيعتصره وأنا أبتسم، والحق أنني لم يسبق لي معرفة تسلسل حبي لها بهذا الشكل، إلا هنا وأنا أتذكر معكم هذه التفاصيل.
لم يكن لدى جيلي الفريد إمكانية الإطلاع على العالم مثل الأجيال الحالية، كنت من الجيل الذي اعتمد على قراءة الجرائد مع قناتين محليتين، وبعض الكتب التي كان أبي يقرر أنها تناسب سني لمعرفة كل شيء عن العالم، فأحببت قصص الأنبياء وبعض الكتب، في مرحلة معينة لم تكن هذه الطرق ترضي فضولى، كُنت أؤمن أن العالم أوسع من تلك الزاوية، لذلك اتجهت إلى عالم الروايات، أحببت الحدوتة بشكل عام، لكن اختياراتي لم تفدِني بمعلومات جيدة عن فلسطين فى هذه الفترة.
ثم زارنا ذات ليلة صديق لأبي قادم من “غزة”، وصل للقاهرة منذ يومين ويفتقد غزة! أهداني “شال” مميز أحمر اللون مطرز، احتفظت به كثيراً ثم فقدته في زحام السنوات، لكني أتذكر أنه جلس يحكي بحماس عن ليالي غزة ويلعن الاحتلال، وأنا أتجول في عينيه باحثة عن التاريخ الذي لم أتعلم منه غير الفتات ولم أجده في القصص فلا أجده، لكني أذكر أنني وجدت الحب في عينيه، وبريق لم أشبع منه جعلني أتمنى رؤية غزة وأمسك طرف الخيط.
ثم جاء يوماً من إجازة الصيف، والتي كنت أقضيها في بيت عمي رحمه الله في بورسعيد في بداية المرحلة الإعدادية، وأذكر أن عمي كان يمتلك “وصلة” لبث القنوات الأوروبية وبعض الدول العربية، وكان هذا حدث عظيم لم نعتد عليه في هذا الزمن، فكان عمي يكافئنا آخر كل خميس مع موعد العشاء بمشاهدة فيلم أجنبي، وفي أحد الأيام وأثناء التنقل بين القنوات توقفت الصورة على قناة أخبار ولم تتغير، وكانت صدمتي لرؤية جنود الاحتلال يعتدون بالضرب على رجل في ساحة المسجد الأقصى، وأتذكر جيداً نظرة الغيظ في عين عمي وعض شفتيه وهو يردد “لقد اقتربت نهايتكم يا أحفاد القردة والخنازير”، وكُنت أسمع أبي في الصغر ينعتهم بـ “الأبالسة قتلة الأنبياء”، ولما كان لي مع عمي ليالِ لا تُنسى من أسئلة لا تنتهي ليلا ونحن نحتسي الشاي في البلكون، سألته ليلتها عن القردة والخنازير وأحفادهم، فحكى قصة “أصحاب السبت” وكيف أن الله مسخهم عقاباً لمخالفة أمره، ثم استفاض في الحديث عن فلسطين والصهيونية والاحتلال، وأشياء لم أفهمها لصغر سني حينها، فلما كبرت علمت أن الله لم يجعل لمسخ نسلاً، ولكن التصق بهم اللقب وسط المجتمع العربي لبشاعة أفعالهم على مرور الأزمنة، إلى هنا لم أكن أعلم الكثير عن فلسطين.
ثم كبرت بضع سنوات وفي المرحلة الثانوية قابلت “غادة” صديقتي الغزاوية، كان جمالها مُتفرد، وكان لها عيون ضيقة تحوي العالم كله بلمعة مضيئة، بنت مختلفة وواعية للوضع السياسي بحكم نشأتها، بينما كنت أنا أحلم بدراسة الإخراج في أمريكا والاستقلال بحياتي هناك، كانت تنتظر خطبتها لابن عمها وتتمنى أن تنجب أطفالها وفلسطين حرة، ولتكون صلاتهم جميعاً في المسجد الأقصى، كانت تسرد أحلامها عن الحرية وتؤمن أنها ستتحقق قريباً كأنها تراها، تعلمت منها أن أرى أحلامى أمامي تتحقق مهما كانت مستحيلة، وكانت أول من أهدتني “الكوفية الفلسطينية” وفسرت لي تفاصيلها، هذه شبكة الصيد وهذا ورق الزيتون وهذه الطرق التجارية -وارتديتها كثيراً في حفلات حتى ظن البعض أنني فلسطينية الأصل- وكانت أول من أكلت من يديها “الكبسة الفلسطينية”.
قضينا مع بعض أجمل الأيام انتقالا للمرحلة الجامعية وكانت والدتها تبعث لي “الهريسة” كل صيف، وتبعث أمي لهم الهدايا من مصر لحين اللقاء، كنا نضحك ونبكي ونسرق من العمر أياماً بغير هم ولا مسئولية، كانت أيامنا وديعة ولم يكن يعكرها سوى بعض الأخبار القادمة من غزة، والتي كنت أرتبك لسماعها، فأنا لم أعتد على مثل هذه الأخبار، هذا نبأ استشهاد أحد أقاربها، وهذا خبر لاعتقال آخر، تبكي غادة وأنا أواسيها بدون وعي أو فهم حقيقي لما وراء الحدث.
للقراءة| بعد محاولات الاستيلاء على غزة.. كيف غيَّر الاحتلال الإسرائيلي خريطة فلسطين؟
ثم عرفتني غادة على صديقات جدد من سوريا ولبنان والأردن في بيت طالبات بمنطقة “الدقي”، كنا نجتمع هناك للمذاكرة والتسلية ومشاهدة المسلسلات وسرد الحكايات التي لا تنتهي مع الطعام، والكثير من الشاي والقهوة على صوت فيروز الذي أصبح خلفية مُستديمة، وأصبحنا جميعاً أصدقاء، معهن تعلمت أشياء مختلفة عن عالمنا العربي لم أتعلمها في أي مكان آخر، عن الحرب وعن الصمود وعن الصهاينة وعن الحياة وقيمتها والموت وحتميته، وبدأ الخيط يطوق قلبي دون أن أعي ذلك، وسمعت حكايات توارثوها تُجزم أن الخطة الصهيونية لم تبدأ في العام 1948 كما نكرر نحن الآن، أن الظلم لم يبدأ في السابع من أكتوبر، إذ أن الصهاينة قبل العام 1948 كانوا يرمون البراميل المفخخة من تل حيفا لتسقط على العمال الفلسطينين بهدف “تطفيشهم” من أرضهم، فكان الأجداد يردون بنفس الشكل على العمال اليهود حيث تعلموا صنع التفجيرات من اليهود في ذلك الوقت، حكايات كثيرة وأحداث لم أناقشها مع صديقاتي المصريات بالطبع قبل أن ألتقي هذه المجموعة، مرت الأيام سريعاً ثم جاء الفراق بعد الانتهاء من الدراسة، وشعرت أنني فقدت عالمي الخاص جداً الذي كان يُطلعني على دنيا مختلفة، وتعاهدنا على مداومة الاتصال، وبالفعل بقيت المحادثات عبر هاتف المنزل تربطنا لسنوات قليلة، نطمئن على بعضنا البعض ونسرد أخبارنا ونتذكر أحلى الأيام، خُطبت غادة ودعتني لحفل الزفاف لكن والدي رفض أن أذهب إلى الأراضى المحتلة إلا بعد تحريرها، بعد الزواج انقطعت أخبارها شيئاً فشيئاً، واتجهت أنا للعمل وتدريجياً نسيت عالمي الخاص، فكانت مكالمتنا متباعدة جداً حتى وصلت لمرة واحدة في السنة، ثم انقطعت أخبارها تماماً منذ عام 2004 ولم يعد لرقم تليفونها وجود ولم تتواصل هي مرة أخرى، لكن الخيط لم ينقطع بل ازداد سمكاً، وجعلني أتمنى أن تكون غادة بخير أينما كانت إلى الآن.
وبقيت أتذكر صديقتي كلما أسمع كلمة “غزة” أو “القدس” أو “المسجد الأقصى” في الأخبار، وأتذكر القضية التي أنساها بفعل عوامل كثيرة، فأشعر بالحنين والذنب معاً، أسمع الأخبار فتكون كفيلة بأن تهزم الروح، لكني أتذكر عيون صديقتي الضيقة بكل ما فيهما من ذكاء وإصرار وإيمان، كانت تقول: “مهما طال العهد سننتصر يا مروى.. ستأتين يوماً لزيارتي وفلسطين حرة”.
ثم حدث أن قادتني العلامات في 2020 إلى معرفة قصة “النبي موسى” مع بني إسرائيل بتفاصيل لم أعلمها من قبل، فذاكرتها مراراً وتكراراً وتعلمت أشياء لم أتعلمها في المدارس، إذ أن اسم “موسى” ورد في “القرآن الكريم” تقريباً 136 مرة، 20 مرة فقط آيات تتعلق بفرعون و110 آية عن اليهود، رقم كبير عن “بني إسرائيل”، وحين انتهيت شعرت بالرضا، لأنني علمت أشياء كثيرة عن بني إسرائيل لم أكن أعلمها، وتوغلت في أحداث قاتمة عن نشأة الصهيونية وكيفية التخطيط لاحتلال فلسطين، معلومات كثيرة التهمت عقلي دفعة واحدة، وكانت الأسماء المدرجة كثيرة ولكل منهم له دوره المؤثر في الاستيلاء على بلادنا.
لم أعلم أن فلسطين الحبيبة تحتل جزء في قلبي إلا وأنا أبحث بجدية في مراجع كثيرة عن تاريخ الصهاينة المحتلين، إلا عندما بحثت بعمق عن تاريخ النكبة الملعون والتخطيط لتقسيم فلسطين، وعندما رأيت الأجداد في الصورة ينزحون بأقل القليل تاركين كل حياتهم وتاريخهم ومستقبلهم ورائهم، وجدتني أعض على شفتاي من الغيظ بدون وعي كما كان يفعل عمي رحمه الله، وأنا أردد “قتلة الأنبياء” كما كان يردد أبي، وهنا كان الخيط قد تملك من قلبي تماماً ولم أدرِ.
ويأتي السابع من أكتوبر 2023 لتتجسد غادة أمامي من جديد، غاب النوم وأصبح عملة شحيحة، وصليت لله أن تكون صديقتي وأهلها بخير، صليت لأهل غزة جميعاً، صليت لفلسطين، وغابت الراحة وغلب القلق والتوتر، فإذا غلبني النوم كانت جثامين الشهداء ودمائهم في أحلامي، ينادون أن حسبنا الله ونعم الوكيل.
الأوضاع تزداد سوءاً، قوات الاحتلال ترتكب كل الفواحش، توقفت كثيراً وأنا أكتب هنا، هل أكتب عن التنكيل والتعذيب والأهانة داخل معتقلات الكيان؟ أم عن الخداع المستمر والأكاذيب؟ أم عن التوائهم عند مطالبتهم بتطبيق مقترح وقف الحرب مثل حية تسعى لنيل مقصدها، والآن كلنا نعلم أن المقصد هو الإبادة، هل أكتب تصريحات حكومة الكيان التي تؤكد ساديتها؟ أم أكتب عن شعب الكيان المتشرد والأكثر كراهية لشعوبنا عامة وللإسلام خاصة؟ شعب جاء من كل حدب وصوب ليستوطن أراضينا “ببجاحة”! هل أكتب عن حبسهم للجثث؟! عن سلخهم جلودنا لبنوكهم؟ عن تجارة أعضائنا؟ عن اعتقال الأطفال؟ عن المجاعة والعجز؟ عن الدمار والركام الذي أبكاني كثيراً؟ هل أكتب عن الانقسام فيما بينهم والذي أفرح له كثيراً؟ حتماً سيجيء اليوم، لكن ماذا عن الآن؟ وماذا يعني عجزنا أمام تلك الجرائم اللا إنسانية التي نراها صوت وصورة كل يوم؟ أفعال لا يفكر بها نسل إبليس نفسه! إن كل سؤال منهم يستحق مجلداً، إن عمي وأبي على حق.
أجنب حنقي للحظات وأذكر نفسي بالقانون الدولي.. لا بد أن حكومات العالم ستفعل شيئاً، لا بد أن “أمريكا” التي كنت أحلم بدراسة الإخراج فيها ستوقف الحرب في يوم ما، لست بساذجة، لا من أجل فلسطين أو حفظ الدماء، ولكن من أجل حفظ ماء الوجه، أعلم أن هذا العالم لا تحكمه الأخلاقيات أو المبادئ ولا حتى الشعارات التي يرفعونها تمثيلاً، لكني ظننت أنهم سيفعلون القليل منها على مضض، من أجل إبقاء المنظمات العالمية حية وأولهم “حقوق الإنسان”، وتأتي الصدمة الفجة ويظهر الوجه القبيح خلف قناع الحريات والديمقراطية، كُنت أعلم قوة الصهيونية في العالم، لكنني اكتشفت سذاجتي عندما رأيت مدى هيمنتها على الحكومات.
وإذا بالعالم كله يقف أمام “غزة”!
العالم كله بقواته وأسلحته جواً وبراً وبحراً يطارد بلد صغير، أهلها مسالمين مدنيين لا حول لهم ولا قوة، ولا تنفك هذه الحكومات تقول “خماس خماس”، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم لن يقضوا على المقاومة، وتنكشف خطط أخرى على منصات التواصل الاجتماعي عن نية الاحتلال منذ البداية بتهجير غزة بالكامل، وعن بناء قنال آخر بدلاً عن قناة السويس، وقصص أخرى ومخططات وتكهنات، أحرار العالم ينتفضون، يتظاهرون يدافعون عن القضية الفلسطينية في كل البلدان، الموقف يشتعل، فتعرقل الشرطة آمالهم وتنفذ خطط الصهيوني، تبدأ المقاطعة في كل المجالات، ونكتشف أننا جميعاً محتلون منذ زمن دون أن نعلم، إن قوى الشر في العالم تتحد، فهل اقترب الميعاد حقاً يا عمي؟
رائحة الموت والدماء في كل مكان، ضباب الدمار يجعلني أرى العالم رمادي مائل للسواد كئيب، صراخ الأطفال ونحيب الأمهات على الأكفان، كسر الآباء وذهول الأجداد من أهوال ما رأوا، كيف لي أن أنام؟ ولكن ماذا أفعل؟ وأتساءل هل صديقتي بخير؟ ومنذ هذا التاريخ الذي أيقظنا وأماتنا وأحيانا كثيراً وأنا أجري في مكاني، ألهث ثم أقف لأستعيد أنفاسي ثم أجري مرة ثانية، أحاول أن أقدم كل ما أملك، أكتب ثم أيأس في أوقات كثيرة، أتذكر عيون غادة المليئة بالحماس والإيمان والصدق فيما تقول “سننتصر.. هذا وعد الله”، أستغفر الله وأذكر نفسي بأن اليأس خيانة، اليأس كفر، أحفز نفسي من جديد وأشحن قلبي وأقاوم فأكتب، لأرى من جديد خيط ذكرياتي مع فلسطين يطوق قلبي بشدة وأنا أنزف في حب، هذا الخيط يمتد طرفه الآخر في غزة مع صديقتي، هذا الخيط يقسم على ألا أفقد إيماني كل يوم، يقسم أن النصر آت لا محالة، وأن الحرية مؤكدة، وأن الظلم سينتهي مهما طال الأمد، وأن أشجار الزيتون ستزرع من جديد، وغزة ستعمر، ويعود أهل بيوتها في سكينة وفرح، يقسم الخيط أن فلسطين أقوى من العالم وإلا ما كانوا تحالفوا عليها.
وهذا كل ما أستطيع فعله يا أحباب.. فهل تسامحوني يا أهل غزة؟ هل تسامحوني يا أهل فلسطين أجمعين على تقصيري الذي استمر لسنوات في حقكم؟