أتذكر ذلك اليوم من صيف عام 2006 الذي عدت فيه من الخارج للمنزل، وأظن أني كنت في إجازة الصف الثالث الإعدادي، عندما طالعني ذلك الخبر الذي لم أعبأ له وقتها، ورأيت الجنازة على شاشة التلفزيون؛ والمذيعون يتحدثون عن وفاة أديب نوبل؛ نجيب محفوظ.
جنازة عسكرية مهيبة، نعش ملفوف بالعلم ومحمول على مدفع، تجره الخيول، والرئيس مبارك يتقدم تلك الجنازة، بينما اثنين من الجنود يحملون أوسمته وميداليته وجوائزه الأدبية.
كان اسم نجيب محفوظ يتردد على أذني مرارًا ومرارًا، وعلى الرغم من أني انغمست طويلا وعشت مع شخصيات درامية مثل “السيد أحمد عبد الجواد” و”محجوب عبد الدايم” و”داوود باشا” من حديث الصباح والمساء والذي بث أول مرة في 2001، وقد كنت طفل صغير أبلغ من العمر 9 سنوات، ولكنه علق بذهني بشكل كبير، ولم أكن أعلم أن كل هؤلاء من خلق محفوظ.
للقراءة| عصام الزيات يكتب: نجيب محفوظ استخلاص الإبداع من الملل المنظم لا الشغف الفوضوي
أتذكر أني بدأت بالثلاثية وهي أول قراءاتي في عام 2014، أثناء فترة تجنيدي في القوات المسلحة، وهذا متأخر جدا، وأتذكر دائمًا رجلي مدلاة من برج المراقبة في الصحراء، والسلاح يرتكن إلى جواري، ورواية “بين القصرين” بين يدي.
هذه كانت الرواية الأولى التي قرأتها لمحفوظ، واكتشفت بغرابة أن روايات محفوظ غير أفلامه، ولم أكن أعرف بعد عن الحروب الدائرة وآراء النقاد وآراءه هو نفسه عن تحويل رواياته إلى أفلام وأعمال درامية، ولكني لاحظت أول ما لاحظت أني تهت في الثلاثية، من تلك التفاصيل المتأنية الهادئة، واكتشفت أن ما يميز محفوظ عن بقية الكتاب الآخرين، هي تلك الكتابة المتأنية.
جرتني الثلاثية إلى بقية أعماله، فمنها إلى الحرافيش وأولاد حارتنا، وزقاق المدق، وميرامار، إلخ.. وأعتقد أني أنهيت أغلب روايات محفوظ في تلك السنة في الصحراء، وخلال هذه النهارات الطويلة، وأثناء الليل ووسط صحراء الصامتة المهيبة، كنت اقرأ أيضًا على بصيص ضوء كشاف هاتف خلوي بدائي أقوم بتهريبه لداخل المعسكر.
كنت أسحب من واقعي، وأجلس عند المشربية انتظر مع أمينة زوجها، كنت أتبع عاشور الناجي وهو يسوق حمير سيده في أزقة القاهرة، وأراقب بيت الجبلاوي من بعيد بخوف.
أنقذني محفوظ من سنة صعبة وشديدة الوقع على الإنسان، مليئة بالخوف في ظل ظروف سياسية كانت مضطربة أيامها، وتهديدات إرهابية شديدة الوطئة على النفس، وفي أوقات صعبة، غرقت فيه، وفي عوالمه، في أزقة الجمالية والنحاسين، والدرب الأحمر.
وإلى ذلك الوقت لم أكن أعرفه كشخص، كنت اعرفه من خلال كتاباته، ولكن الفترات التي لحقت ذلك، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي جعلني اشاهد كل اللقاءات التلفزيونية التي قام بها، وحادثة اغتياله، جعلني اليوتيوب والتلفزيون أعرفه عن قرب، وأعرف أفكاره، وفهمت ذلك الانطباع الذي راودني أول مرة أقرأ له، أنه رجل متأني، ليس في كتابته فقط ولكن ايضًا في حياته الشخصية.
منذ أيام قليلة كنت في أحد لقاءات الإذاعة، وسألتني مقدمة البرنامج عن نجيب محفوظ، وأخبرتها أني أحب الاستماع إلى هذا الرجل بقدر ما أحب القراءة له، وقلت لها نصًا “دا السماع له ميديتيشن”.
عندما يكتب كاتب عن بداية القرن العشرين، أو يقوم مخرج بإخراج فيلم عن هذه الفترة، يقول البعض هذه من عوالم نجيب محفوظ، اضحك ساعتها وأنا أفهم..
لقد كان هذا الرجل العبقري يكتب بواقعية شديدة للغاية، بصدق بالغ، مبهر، للدرجة أنه أصبح يمتلك فترة زمنية من الوطن باسمه، وهذا أمر غريب، لقد تخطى محفوظ كونه كاتبًا إلى كونه جزء من الهوية.. لقد أصبح جزء من التاريخ.
لقد أصبحت الجمالية و”شارع المعز” و”بيت القاضي” و”الدرب الأحمر” والقاهرة التاريخية بأكلمها والممتد عمرها لأكثر من ألف سنة في التاريخ هي “قاهرة نجيب محفوظ؟!”.
هل يعقل هذا؟ هل يمكن أن تفعل الكتابة ذلك؟ أن تعيد تشكيل العالم والواقع والتاريخ؟ أن يمتلك رجل مدينة بغير درهم ولا دينار؟ أن ينسب التاريخ إلى شخص، لا أن ينسب الشخص للتاريخ؟
لقد عشت ملهمًا بهذا الرجل لسنوات طويلة، ولازلت إلى الآن ملهمًأ به، عندما أقابل الأساتذة والأصدقاء ممن قابلوه أو عرفوه أكون متحمسًا للغاية لتلمس حكاياته، و”قفشاته” المعجونة بالشخصية المصرية.. بل أني أحاول أن أفهم الإنسان المصري من خلاله.. عبر تراثه الجمعي الكبير. وأتساءل كيف تغيرنا؟
في أحد لقاءاته التلفزيونية تسأل المذيعة محفوظ عن رأيه في “أحمد عدوية” باعتباره رمزًا للثقافة وكون عدوية “مطرب” شعبي هاجت عليه الإنتلجنسيا والمثقفين في مصر، متوقعة أن يعطي إجابة مستهجنة لفن “السح الدح إمبو”، ليفاجئها محفوظ بأنه يستمع له، بل وأيضًا يثني عليه. فوجئت أنا أيضًا بهذه البساطة التي يرى بها هذا الرجل العالم.
هذا الرجل الحائز على جائزة نوبل في الآداب والذي يقول عن الرواية “قِصة”، فهو رجل بسيط يكتب “القصص” مثله مثل رواة السيرة الشعبية الذين حدثنا عن زمانهم الذي ولىّ في افتتاحية “زقاق المدق”.
كوّن محفوظ الكثير من أفكاري، بل كون الكثير من أفكار هؤلاء الذين لم يعرفوه من الأصل ولم يقرأوا له، فعندما تصرخ أمرأة في زوجها: “أنت هتعملي سي السيد!”، فإنها تستعير عقل محفوظ لتقول ذلك في هذه اللحظة.
تغلغل محفوظ إلى دمائنا، إلى ألسنتنا.. ورثناه جميعًا، قراء وغير قراء؛ كتاب، ومثقفون وموظفون وعمال وربات بيوت.. لقد أصبح محفوظ جزء من تاريخنا الإنساني المصري، لا يمكن أبدًا أن نجحده.