كتبت: مروة محمد
تبدو الحياة مُضيئة لكثيرِ منا من الخارج. تتوهج فيها الأحلام والطموحات والآمال من كل جانب، ولكن يقبع بداخلها مُستنقع من الانحطاط والانحدار الأخلاقي يجرُنا نحو المجهول، ويُشيد أمامنا جداراً من الخوف والاستسلام للتشوهات الأخلاقية وانعدام الرحمة الإنسانية، بل والعمل على هدمها بكل الطُرق الغير ممكنة والغير مشروعة.
تتولد الكثير من الأحداث في اليوم الواحد حتى أصبح يومنا مليئاً بالصخب والضوضاء من بشاعة تلك الأحداث. هل من المُمكن أن نعود للهدوء في يومنا وسيره على وتيرة ثابتة بدون أحداث متلاحقة مُتصاعدة وحوداث مُتتابعة يَنتُج عنها توابع لا حصر لها؟ فتلك الحوادث تحبس أنفاسنا، وتُقَيد حريتنا في التعبير عن رفضنا لها، بل تُلَثِم ألسنتنا في إبداء الرأي عن وجهات نظرنا، وكسر حاجز الخوف الشنيع من أجل تحقيق العدالة والعدل، وإعطاء المجني عليه حقه وعقاب الجاني، ولكن انقلبت الآية في عصرنا الحالي فأصبح المجني عليه هو الجاني الذي يجب تم بتره من المجتمع، ومعاقبته على ذنب لم يفعله، والدفاع عن الجاني بكافة الوسائل.
لمع في ذهني كل هذه الأفكار والتساؤلات أثناء قراءتي لرواية “حادثة يوم الخطوبة” للكاتب والروائي المبدع دائما “أحمد مدحت سليم”، والصادرة عن دار دوِّن للنشر والتوزيع.
في يوم واحد تتبدل حياة أبطالنا الأربعة، بل إنها تنقلب رأساً على عقب. وقد برع الكاتب أحمد مدحت سليم في رسم الشخصيات الأربعة بما تحمله كل شخصية من مشاكل حياتية، وظروف أسرية، وبؤر نفسية، وصراعات عديدة من أجل إثبات حقهم في الحياة، والتمسك بأحلام وهمية والطموح في حياة سوية بلا ندوب وجروح قدر المستطاع، والتطلع لمستقبل وردي يخلو من شوائب الخزي والخذلان والتنمر وكسرة القلوب.
حادثة يوم الخطوبة مليئة بالعديد من المشاهد البصرية، فكلما قرأت سطراً كلما رأيت أمامي صوراً لأبطال الرواية “مايسة” و”صابر” و”سامر” و”قاهر”، بل إنني تجولت معهم في كل الأماكن التي ذُكرت في الرواية، وشعرت بخوفهم وآلامهم، وملاحقة الذكريات لهم، وانجذاب أقدارهم لبعضهم البعض، وكأن أقدارهم تشدهم سوياُ بمغناطيس، حيث لا يُمكنهم الفرار من بعضهم.
تنقسم الرواية إلى ثلاثة فصول. وعناوين الفصول جاءت مُعبرة. مُعبرة عن روح كل بطل من الأبطال الثلاثة، بينما اجتمعت كل هذه الصفات والرموز في شخص مايسة. فالفصل الأول عنوانه الصبر، ويأخذ بطلنا “صابر” نصيباً كبيراً من اسمه في الصبر على قسوة الحياة، وتحمل الصعاب، واستمرار الطموح في غدِ أفضل. أما الفصل الثاني عنوانه السمر ليأتي “سامر” ويأخذ نصيباً من السمر والتمتع بجوانب الحياة المضيئة، واتباع منهج ثابت في الحياة، وتغيير موجة حياته إذا تطلب الأمر بعض التدخلات من داخل مُحيط كل من يُحاوطه وبالأخص أسرته، وقد تكون هذه التدخلات أيضا خارج مُحيط دائرته.
أما الفصل الثالث جاء بعنوان “القهر” الذي يتمثل كافة أنواعه وأشكاله في صورة بطلنا “قاهر”. القهر الذي يخلق منك شبحاً في صورة بشر، تفعل ما تشاء وقتما تشاء أياً كانت الأضرار التي ستتسبب فيها لغيرك، بل إنك قد تدمر حياة أي شخص يقف ضدك، ويصل بك الأمر لحد الجنون وارتكاب الجرائم، ولا تكتمل تلك الجريمة إلا بوجود ضحية ذنبها الوحيد أنها وُلدت في هذه الحياة البائسة.
وجاء تقسيم فصول رواية حادثة يوم الخطوبة مُرضياً ومنطقياً بشكل كبير من وجهة نظري. فحياة الإنسان منذ قديم الأزل وحتى عصرنا هذا يجب أن تتحلى بالصبر، الصبر على النفس، والصبر على مصاعب ومرارة الحياة، الصبر على البشر، والصبر على تحقيق الأحلام لتُصبح واقعاً ملموساً، بل الصبر على الصبر نفسه حتى لا يمل من شكوانا مهما اشتدت خشونة الحياة. فالصبر مفتاح الفرج لكل مشاكلنا.
ولكن القهر ينهي كل شيء جميل. القهر هو التوأم المُلتصق للقُبح، هو الدود الذي يتغذى بتآكل طموحنا وأحلامنا وآمالنا، يحول القهر الإنسان لمسخ، خيال مآتة بلا إرادة، بضمير نصف ميت، والنصف الحي يظل فقط يؤنبه طوال حياته حتى لا ينعم بحياة كاملة الاستقرار، فيظل حبيساً داخل قوقعته من اللوم المستمر وجلد الذات.
اجتمعت كل هذه الصفات في بطلة الرواية “مايسة”. فشخصية مايسة تُمثِل شريحة كبيرة من الفتيات في مُجتمعنا الشرقي، مثلها مثل أي فتاة طبيعية تتمنى أن تعيش قصة حب تُخرجها من عتمة الظلام لنقطة النور، ولكن يتلاعب القدر بمشاعر وعقل مايسة نتيجة الخذلان الذي تعرضت له في تجربتها الأولى. فتُقرر التمرد على نفسها وعلى حياتها وعلى أسرتها، فقد اعتقدت بذلك أنها تسترد حقها في الحياة وترد اعتبارها لذاتها، ولكنها انزلقت في بئر الخوف والقلق والذل والقهر والتوتر وجلد ذاتها باستمرار.
خلقت الرواية داخل عقلي العديد من التساؤلات حول البشر، وفلسفة الحياة المُعقدة وما يتطلع إليه الإنسان، بل إنها تعمقت داخل النفوس البشرية بمنتهى السلاسة والشفافية. لعبت الأماكن دوراً بارزاً لا يقل أهمية عن دور أبطالنا الأربعة. فهذه الأماكن مُشعة بروح القاهرة، وساعدت على تشكيل مشاعر أبطال الرواية، وصعود وهبوط أحاسيسهم وشعورهم، وتحول الأحداث من نقطة هادئة إلى بؤرة مشتعلة لا تنطفئ.
فاجأني الكاتب أحمد مدحت سليم في رواية “حادثة يوم الخطوبة” من حيث الفكرة وأسلوب الكتابة. فهذه الرواية مُختلفة عن بقية أعماله السابقة. وساعدنا الكاتب على مُشاركته في رسم النهاية، فقد حاصرنا بأسئلة كثيرة وأفكار مُتعددة تدور في عقول أبطال الرواية، وما ترتب عليه من نتائج بعد هذه الحادثة، فقد تبدلت نظرتهم للحياة في كل ما يخصهم، ثم يُفاجئنا الكاتب بتوقفه عند نقطة محددة في نهاية الرواية ليُشارك القارئ معه في رسم ووضع نهايات مختلفة. فقد تتشابه تفاصيل حكايات الأبطال الأربعة مع أشخاص آخرين قابلناهم في حياتنا، ولكن ستختلف النهايات وتتشكل على حسب الزمن واختلاف الأزمنة والعصور.
حادثة يوم الخطوبة هي نافذة نَطُل من خلالها على خبايا نفوس البشر التي تكشف لنا الوجه القبيح للمجتمع الذي أصبح كالثور الهائج في اندفاعه وتهوره. كما تكشف لنا قوى القهر، ومدى قسوة الحكم على البشر ظاهرياً فقط دون التفتيش في جُعبة نفوسهم التي تحمل الكثير. حادثة يوم الخطوبة هي حادثة حصلت منذ قديم الزمان، وتكررت في عصور مُختلفة، وستتكرر في ظل غياب قوانين رادعة واستبداد الظروف الحياتية والأسرية.