مرحبا يا رفاق، اسمي هو إبراهام فان هيلسنج، بعضكم يعرفني منذ عام 1897 عندما صدرت رواية دراكولا للكاتب الأيرلندي برام ستوكر، نعم نعم.. أنا شخصية خيالية، قادم إليكم من بين الصفحات الورقية للرواية الأشهر في عالم الرعب، تخيلوا أنكم في برنامج إذاعي، آه كلا ليس برنامج حديث في عصر السوشيال الميديا، لا خيال في أمر كهذا، بل برنامج إذاعي عبر الراديو في الأربعينات مثلًا، أنتم تجلسون في الإسكندرية في ليلة عاصفة وممطرة، الحنطور بالخارج والخيل يصهل في قلب العاصفة، أمواج البحر تثور وتعدك بألف سر وسر، أنتم تجلسون جوار النافذة، بعد أن ارتديتم المنامة الليلة وتخلصتم من الطربوش، أمامكم الراديو ومنه ينبعث صوت فان هيلسنج، مستضيفكم ومحدثكم في تلك الليلة، الذي يتصادف أنه شخصية روائية ورأى الكثير خلال دورة حياته الأبدية، الآن سأحدثكم عن الرعب.. كل الرعب ولا شيء سوى الرعب.. بعضكم أعد لنفسه قدح شاي ساخن ليدفئ نفسه وسط كل هذا الصقيع، لا بأس، فقط تأكدوا أن لا أحد يختبئ في خزانة ثيابكم أو أسفل الفراش.. هل أنتم مستعدون؟ لنبدأ إذن.
شئنا أم أبينا فإن أدب الرعب أحد أقدم أنواع الفنون على وجه الأرض، وربما هو النوع الوحيد من الأدب الذي يتمتع بمقومات اللغة العالمية، بمعنى أن أي أحد قادر على الارتباط العاطفي والتأثر بما يحدث داخل الحكاية على اختلاف جنسيتهم، بلدهم أو زمنهم.. لأن البشر يخافون من نفس الأشياء بنسبة كبيرة جدًا، كما أنه يحمل الكثير من الرمزية بين طياته، خذ عندك تاريخ سينما الرعب مثلًا في الثلاثينات والأربعينات وقبلها فترة السينما الصامتة عندما تألقت السينما الألمانية بأفلام كابوسية لا مثيل لها مثل “كابينة الدكتور كاليجورا” و”نوسفيراتو” و”فاوست”.. في تلك الحقبة الشريرة دومًا كان مصاص دماء ارستقراطي -كما هو الحال في نوسفيراتو وهو معالجة لرواية دراكولا- أو طبيب مخبول شرير مثل الدكتور كاليجورا، أو الشيطان نفسه وهو يجري صفقته الشريرة مقابل روح فاوست، وهذا يعكس ظروف تلك الفترة الاجتماعية والاقتصادية.
الإقطاعيون والأثرياء يمصون دماء الفلاحين والطبقة العاملة بشكل أو بآخر، ثم بعد التغيرات الاقتصادية الناجمة عن الثورة الصناعية ظهر مسخ فرانكشتاين والمستذئب في السينما، وهم يمثلون رجل الطبقة الكادحة الذي يتحول لوحش بعد كل ما تعرض له من قهر وضغط، مسخ فرانكشتاين يثور على الطبيب الذي يصنعه والبشر أجمعين، والمستذئب الذي يتحول ليلًا لوحش آدمي معبرًا عن طاقة الكبت بداخلة، تلك الأفلام -ولسوف نتحدث عن الروايات الأصلية لهم بعد قليل- كانت ممتعة جدًا وتحمل درجة عظيمة من الخيال، لكنها في الآن ذاته تعكس إسقاطات اجتماعية عدة، وتحمل مقومات اللغة العالمية، بمعنى أنك لو عرضت فيلم الرجل الذئب لرجل إفريقي أو آسيوي أو مريخي! فلسوف يفهمه ويستمتع به، على اختلاف الأزمنة والعقود، عكس مثلًا رواية دكتور زيجافو لبوريس باسترناك والفيلم الشهير المستوحى منها، تلك رواية جميلة ومهمة أدبيًا لكنها انتقائية ولا تحمل مقومات اللغة العالمية وفي الأغلب لن يستمتع بها أحد مثل الشعب الروسي، والتي تدور أحداث الرواية في بلدهم.
مع حلول الستينيات والسبعينيات وظهور حركة التحرر النسوية ومطالبات المساواة والعولمة والتحرر الاجتماعي والاقتصادي، ظهرت أفلام الموتى الأحياء ولعل أشهرهم فيلم “ليلة الموتى الأحياء” والجزء الثاني “فجر الموتى الأحياء” والذي تدور أحداثه داخل “مول تجاري” يهيم حوله الزومبيز محاولين اقتحامه ليفتكوا بالأبطال المختبئين بداخله، طبعًا تلك رمزية للعملاء المستهلكين الذين يبغون الاستفادة من العروض ويزدحمون متكدسين داخل “المول التجاري”.. هذا مثال آخر للرمزية والإسقاطات الاجتماعية داخل أدب الرعب.
“هل زوجتك هي زوجتك حقًا أم أنها قد تغيرت؟”.. “هل لا يزال بإمكانك الثقة بإصدقائك وعائلتك؟”.. في رواية “خاطفوا الأجساد” والفيلم الخمسيناتي والسبعيناتي المأخوذ عنها نرى فكرة الكائنات الفضائية التي تستبدل البشر وتنسخهم، والحل الوحيد كي تنجو هو أن تتظاهر بأنك واحدا منهم، متبلد المشاعر وتعيش كالآلة، لو أظهرت مشاعرك سيعرفون أنك بشري ويفتكون بك، هل ترى الرمزية هنا؟! في الخمسينيات كان هناك فكرة الصراع الأمريكي – السوفيتي، هل جارك لا يزال رأسمالي أم أنه قد تحول لاشتراكي أو شيوعي؟.. فظهرت روايات وأفلام مثل “خاطفوا الأجساد” و”قرية الملعونين” عن التحول والتبدل، في قرية الملعونين تحمل نساء القرية فجأه دون سبب وينجبن جيل من الأطفال متبلدي المشاعر ذوي قدرات خارقة يفتكون بالبشر، الجيل الجديد في مواجهة الجيل القديم، كل تلك الأمثلة تحمل مقومات اللغة العالمية، وفكرة الرمزية..لا تنسِ فكرة عدم إظهار المشاعر في الشركات الاحترافية والتعامل بتبلد، تم مناقشة تلك الفكرة أيضًا في رواية خاطفي الأجساد.
“آه لحظة يا رفاق هناك مصاص دماء أحمر العينين وأنيابه تقطر دمًا، بجسد خفاش آدمي عملاق، وعبائة سوداء، يحاول اقتحام الكوخ الذي اختبئ فيه في قلب الغابة المهجورة، أين الوتد الخشبي، يقتحم المسخ الكوخ والضباب ينقشع في كل صوب، تبًا لقد قفز علي وأسقطني أرضًا وهو يهمس بصوت كفحيح الثعابين، يا آلهي عيناه تنومني مغناطيسيًا وتسلبني قواي، أين الوتد؟ ها هو ذا.. أمد يدي محاولًا التقاطه، أنياب الوحش تقترب من عنقي، آه.. تلتقط يدي الوتد الخشبي وتغرزه داخل قلب مصاص الدماء فيصرخ صرخة عاتية كفيلة بإيقاظ الموتى قبل أن يسقط أرضًا جواري، أعتدل أنا وأنفض ثيابي، معذرة أنتم تعرفون مهنة صائد الوحوش تلك صعبة للغاية ولا ضمانات بها، أين كنت؟ نعم نعم.. أدب الرعب!”.
هناك عامل آخر مثير للحيرة والغموض في أدب الرعب وهو علاقته بالنفس البشرية وحقيقة أنه دائم التغير، لقد تحدث كارل يونج -العالم النفسي وتلميذ سيمجوند فرويد أبو التحليل النفسي- عن الوعي الجمعي، فكرة أن هناك أفكار وإرث ما في وعينا لا تفسير لها، مثل خوف البشر من الظلام.. حسب تفسير يونج فقد ورثنا هذا الخوف من أجدادنا، رجال الكهف، الذين اعتادوا الصيد في البرية بوضح النهار قبل العوده للكهوف مع حلول الظلام اتقاء لشر الوحوش البرية كالدببة والذئاب.
وماذا عن خوفنا من الثعابين؟ هل لدغ ثعبان رجل كهف في وقت ما ونجا الأخير وورث لنا مخاوفه تلك؟.. الحقيقة أن الوعي الجمعي له علاقة مباشرة بكل مخاوفنا، دعوني أفسر -ولنتجاهل صوت عواء الذئب القادم من الغابة.. أنا أحمل معي مسدسي ذو الرصاصة الفضية القادرة على قتل المذئوب فلا تقلقوا- في القدم كان يجتمع رجال القبيلة حول كبيرهم ويحكي لهم هو الحكايات عن “النداهة” و”الغيلان” و”أبو رجل مسلوخة”، في الحكايات تلك كان الشر شيء خارجي يهاجم أفراد المجموعة أو القبيلة، ثم مرت العقود وظهر علم النفس، وزامنه ظهور قصة ر.ل ستيفنسون الشهيرة “د. جيكل ومستر هايد”.
في القصة يبتكر د. جيكل العالم المرموق ذو الأخلاق العالية مصل تجريبي، هذا المصل يحول الطبيب ذو المكانة الاجتماعية العالية لرجل آخر، رجل قبيح متحرر لا يهتم بالقيود الاجتماعية أو الأخلاق، ولا يريد سوى إشباع شهوته ورغباته البدائية، رجل عنيف أشبه بالمسوخ يدعى “مستر هايد”.. تلك أول قصة في التاريخ ترمز للانفصام -أو تعدد الشخصيات- والجانب الآخر المظلم بداخل كل واحد منا، وهناك بعض المزاعم أن القصة قد سبقت علم النفس إلى فكرة تعدد الشخصيات، في القصة الطبيب جيكل يعاني الكبت وفي النهاية تنفجر كل رغباته الدفينة في صورة المسخ.
بعد ذلك ظهر نوع آخر من الشر في أدب الرعب بخلاف الشر الخارجي الذي سيهاجم أفراد القبيلة كالمستذئب أو مصاص الدماء أو المومياء، شر داخلي بشري، فظهرت قصص وأفلام عن القتلة المتسلسلون والأفراد الذين يعانون الانفصام والأمراض النفسية، أشهرهم رواية “نفوس معقدة” لروبرت بلوخ التي تحولت لفيلم هيتشكوك الشهير “سايكو” ورواية توماس هاريس الأشهر “صمت الحملان” التي تحولت لفيلم شهير بنفس الاسم.. في “نفوس معقدة” و”صمت الحملان” وروايات أخرى كثيرة نرى أن الشر داخلي، وهو في صراع مع الجانب المضيء بداخلنا وعندما ينتظر يسود الظلام والرعب.
ما أريد قوله هو أن أدب الرعب غاية في الرشاقة والمرونة ودائم التطور مع متطلبات العصر وتغيراته، ويحمل العديد من الأنواع بداخله، ناهيك عن كونه شديد القوة والتأثير. مثلًا ستجد فيلما أو رواية من نوع “رعب كوميدي” أو “رعب رومانسي” أو “رعب وخيال علمي” فهو قادر على التوغل داخل أنواع الفنون الأخرى والمزج بينهم.. وفي أنواعه هو نفسه ستجد “الرعب القوطي” و”رعب القلاع القديمة” والعواصف والتلميح والأشباح والعصر الفيكتوري مثل دراكولا وفرانكنشتاين، و”الرعب النفسي” مثل “صمت الحملان” و”نفوس معقدة”، و”رعب الخطر الواقعي القريب كرجل مجنون يحمل سكين” و”الرعب الدموي” و”رعب التشويق والأشلاء الآدمية”. بالمناسبة أغلب كتاب ومخرجين هذا الرعب نباتيون ولا يتحملون العنف الواقعي، لكنهم قادرون على الوصول لأقصى درجات العنف في خيالهم وفنهم، وقد فسر علم النفس أن هذا نوع من التطهر الفانتايازي والهروب من الواقع، مثل جيمس وان مخرج فيلم المنشار وأعمال تارانتينو -ليست كلها رعب لكنها تحمل تلك الدرجة من العنف- والحقيقة أن العنف المقدم في أعمالهم يحمل نوع من الفكاهة بداخله تجعلك تشعر حقًا أن هذا مجرد هروب من الواقع وخيال، وليس نوعا من العنف السادي أو المريض.
وماذا عن أنواع الرعب الأخرى؟.. رعب الفانتازيا مثل رواية “كتاب المقبرة” لنيل جايمان، والتي تحكي حكاية طفل تربيه أشباح وغيلان مقبرة تاريخية، في الرواية نكتشف أن البشر هم المسوخ الحقيقيون. تخيل هاري بوتر أو أليس في بلاد العجائب أو كتاب الأدغال بشكل مرعب ولسوف تفهم مقصدي. هناك أنواع أخرى كثيرة للرعب مثل “السلاشر- ولسوف أحدثكم عن هذا النوع في مقال منفصل”.
إذن الرعب دائم التغير والتطور ويحمل أنواعا عدة بين طياته كما أنه قادر على الوصول لمختلف الشعوب على مر الأزمنة ويحمل دومًا رمزيات بداخله، كما أنه ببساطة ممتع وقادر على نقلك لعالم ساحر آخر، مثلما اعتاد فنسنت برايز -ممثل الرعب الكلاسيكي- أن يقول: إنه أدب الفانتيستيك أو الفانتازيا المبهرة.
“هناك خطوات تقترب من الكوخ، لنحاول تجاهلها”.. علاقة الرعب بعلم النفس شديدة القوة حقًا، فبخلاف الوعي الجمعي، والجانب المظلم بداخلنا والانفصام تتطرق الرعب لفكرة فقدان الهوية والعلاقات العاطفية. ففي قصة “من يذهب هناك” التي تحولت لفيلم الشيء الشهير يتسائل أحد الشخصيات “كيف أعرف أن كنت بشرا أم تقليدا؟”.. هي قصة رعب عن مجموعة محاصرون في الثليج وهناك مخلوق فضائي قادر على التجسد بشكل البشر بينهم، هذه رمزية مباشرة لمسألة فقدان الهوية. وفي فيلم “المرأة” لديفيد كورنبيرج نرى علاقة رجل بزوجته ومسأله طلاقهم بشكل كابوسي مرعب فالزوجة تتغير وتتحول لمسخ حقيقي، وفي قصة “طفل روزماري” نرى فكرة الزوج السلبي الذي يهمل زوجته ويهتم بنفسه فيبيع زوجته الحامل لعبدة الشيطان لكي تنجب للعالم ابن لوسيفر.
الخيال يا سادة، الخيال.. هو قلب الرعب، أدب التغلب على الواقع وليس الهروب منه فحسب، في إحدى القصص يتم استخدام روايات الرعب كنوع من العلاج النفسي. -معذرة لو شردت قليلًا، هناك خطوات ثقيلة تقترب من الكوخ، أحدهم يقف خلف الباب ويطرقه، هناك صوت ذو لكنة رومانية ثقيلة يتحدث.. محدثكم فان هيلسنج من قلب الكوخ في الغابة المسحورة بصدد لقاء مخلوق ليلي آخر فيم يبدو.. على أي حال بإمكان هذا الزائر الليلي أن ينتظر قليلًا.. آه إليكم بعض الاقتباسات والجملة التي ستوضح جاذبية الخيال في أدب الرعب”.
“الناس يسألوني كيف يتسنى لي كتابة تلك الكوابيس المرعبة، الحقيقة أني أحمل قلب طفل صغير، وأحتفظ به في وعاء زجاجي على مكتبي” الكاتب روبرت بلوخ.. “كل ما رأيته أو كنته ليس سوى حلم داخل حلم” إدجار ألان بو.. “أستمع إليهم، أبناء الليل، أي موسيقى عذبة تلك التي يعزفون” برام ستوكر – دراكولا مشيرًا لعواء الذئاب في الرواية الشهيرة.. “لا تغمض عينيك عندما تخاف، فقط تذكر أن هناك سبب لخوفك، وأنك لن تراه يقترب منك وأنت مغمض العينين” رواية زائر منتصف الليل – للكاتبة ناردين الصباغ.
هل تشعرون بسحر الخيال في تلك الجمل؟ -لحظة يا رفاق، الزائر الليلي يهشم باب الكوخ.. العاصفة تزأر.. صوت الرياح يهمس ثم يصرخ بكلمات شيطانية.. البرق يسطع والرعد يدوي.. وأمامي يقف الكابوس.. عدوي اللدود.. الكونت دراكولا.. ينظر إلي دراكولا بعينين لا حياه فيهم، عيون حيوان جائع، ويسير للأمام قبل أن يقف أمامي ثم يتحدث ببطء” فان هيلسنج.. ما الذي تعرفه أنت عن أدب الرعب؟ ما الذي تعرفه عن كوابيس الليل؟ عن شعور وأنت تعود شقتك ليلًا فتمد يدك صوب قابس النور في الظلام لتجد يد باردة على يدك؟ وعن شعور الفتاه التي دلفت لسيارتها لتجد رجل يختبيء في المقعد الخلفي؟.. ما الذي تعرفه عن الفتاه التي كانت تعتقد أن هناك رجل أسفل فراشها وظلت تنتظر عودة زوجها في رعب وعندما عاد أخيرًا ارتمت هي في أحضانه فقط لتجد في المرآة أن الرجل أسفل الفراش هو جثة زوجها وهي تحتضن قرينه في تلك اللحظة؟ أنت تحدثهم عن أدب الرعب من الخارج، لكنك لم تتقترب من كوابيسه، ولم تحكِ لهم عن أساطير المصريين القدماء والعرب عن المجهول والرعب، تنحِ جانبًا يا فان هيلسنج، أنا دراكولا، سيد الظلام والليل، سوف أحكي لهم أسرار الرعب كله.. تنح جانبًا يا فان هيلسنج.
حسنا يا رفاق، أنتم تعلمون مزاج دراكولا المتقلب، ولا أعتقد أن هناك جدوى في مجدالته، سوف أجلس أمامه، ولن اتساءل عن مصيري بعد أن ينتهي من الحكي، في الفقرة القادمة من برنامجكم الليلي المرعب عبر إذاعة الراديو سوف يكمل لكم دراكولا الحدث عن الرعب.. كل الرعب.. ولا شيء سوى الرعب.. فقط حاولوا أن تظلوا أحياء وأنتم تستمعون للكوابيس القادمة.
كان معكم إبراهام فان هيلسنج…