استيقظت قبل عدة أيامٍ لأبدأ يومي بكوب من القهوة اعتدتُ احتسائها في الحديقة وأنا أتصفّح صفحات التواصل الاجتماعي على هاتفي. ففوجئت بأنني لا أستطيع الدخول إلى صفحة الفيسبوك، ثم حدث الأمر ذاته مع صفحة الإنستجرام.
اندهشت كثيرًا بعد فشل كل محاولاتي، ولاحظت عدّة رسائل واردة على البريد الإلكتروني. عاينتها، فتبيّن لي أن بعضها تضمّن تنبيهًا للدخول إلى صفحتيّ من مواقع جغرافية بعيدة، تلتها رسائل تأكيد لقيامي بتغيير رمزي الدخول السرّيَّين للصفحتين، ثم تلتها رسائل تضمّنت جدولة عملية غلق الحسابين! أنا لم أفعل أيًّا من ذلك!
حين حاولت الدخول لوقف عملية الغلق، اكتشفت أن من فعل ذلك قام أيضًا بتغيير البريد الإلكتروني ورقم الهاتف المرجعيّين للحساب، واللذين كنت ألجأ إليهما في كل مرة أنسى رموز الدخول فيها.
فهمت أنني تعرّضت لهجوم عنيف من أحد الهاكرز، وخشيت لوهلة أن يكون قد أجرى بين مراحل هجومه هذا مكالمات أو بعث رسائل ابتزاز أو ذات محتوى فاضح، لكنني رجّحت بأملٍ كبير أن من سيتلقّى مثل هذه الممارسات سيفهم على الفور ما حدث، الأمر أصبح شائعًا ومألوفًا.
انتظرت أن تصلني من ذلك الهاكر أي رسائل ابتزاز أو مساومات، لكنه لم يفعل.
تملّكتني الحيرة الشديدة ممّا يمكن أن يدفع أحدهم لفعل ذلك. وتقمّصت سريعًا شخصية المقدّم رامي؛ بطل رواياتي الأحدث؛ فأحضرت دفتر الأوراق المكتبية الصغيرة الموجود دائمًا على مكتبي، والتقطت منه ورقة، كتبت عليها (صديق خائن).
وقد طرأ على بالي صديق لطالما دعمته وساعدته قدر استطاعتي، لكنه طلب مني مؤخرًا خدمة كانت خارج دائرة قدراتي، وحين لم أُلبِّ طلبه، لاحظت جفاءً غير معتاد منه. ظننت أنه من فعل ذلك لعلمي بمهارته في هذا المجال.
بعد برهة، التقطت ورقة أخرى وسطّرت عليها (قلب لم ينبض). إنه اسم أحد الحسابات التي أرسلت طلب صداقة لي فقبلته، وقد ظننتها متابعة لكتاباتي، لكنها راسلتني بهدفٍ آخر غير ذلك، فأوضحت أنها آنسة في الأربعين، ترغب في الزواج والإنجاب قبل أن تذبل زهرتها.
وعدتها — رغم عدم اقتناعي — بمساعدتها وترشيحها لأول عريس أصادفه. كنت جادًّا بالمناسبة، لكنها بمرور الأيام ظلت تضغط وتضغط، وتستعجل وتستعجل، حتى صارحتني بقبولها لأن أكون أنا المحظي المُنتظر، وأنه لا بأس من أن تكون زوجة ثانية… رسمية كانت أو حتى عرفية!
كانت جادة هي الأخرى على ما يبدو.. اعتذرت لها بعبارات صدرت رغماً عني، جافة ولائمة… ونادمة أيضًا. خمّنت أنها فعلت ذلك انتقامًا لكرامتها المجروحة بسبب رفضي.
وأنا أُعد فنجان القهوة التالي، قفز إلى ذهني ذلك المتابع الذي أمطرني بمراجعات لرواياتي كنت أعلم أنها منسوخة من صفحات قرّاء آخرين، لكنني أبيت أن أحرجه، لكنه بادر بإحراجي حين صارحني بأنه يدير إحدى صفحات الأدب ويرغب في إدارة صفحتي مقابل مكافأة شهرية.
أظن أنني كنت قاسيًا حين أبديت له عدم اهتمامي، ثم وبّخته وأخبرته بكل كذباته السابقة، ففعل هذا في صفحاتي.
التقطت ورقة جديدة أثناء تناول القهوة، وكتبت عليها (زوجتي) التي تغار عليّ كثيرًا، وتخشى من رومانسيّتي وسعة صدري غير المحدودَين تجاه الآخرين، من أمثال (قلب لم ينبض)، وما قد يترتب على ذلك من علاقات لها الحق إن وصفتها بأنها عشوائية وغير مفهومة.
قفز إلى ذهني بعدها أبنائي، الذين يجدون أحيانًا في بعض كتاباتي وتعليقاتي عدم ملاءمة أو لغة لم تعد تناسب عصرهم السريع “الفرانكو آرابي”! يُشعرهم ذلك أحيانًا بالخجل.
وفي خضمّ البحث عمّن فعلها، تسرّب إلى نفسي فجأة شعورٌ بأن هذا الهاكر — في الواقع — لم يؤذِني كما ظننت… فلو قرأ كتاباتي لأدرك مدى نقمتي على وسائل التواصل الاجتماعي، وعدم التوافق الكيميائي بيننا.
فهي باردة على خلاف طبيعتي. اختزلت كل المشاعر حين عجزت عن التعبير عنها، وأجّجت الخلافات وسوء الفهم، وشغلت الأذهان بأوهام غير واقعية، وعلّقت العيون بأنماط حياة ليست متاحة للغالبية، بل واستدرجت السُّذّج لمساراتها وممارساتها الشائكة، والعجيب أيضًا أنها باعدت بين الأحباب بذات القدر الذي وصلت به بين الأغراب!
نظرت إلى ورقة فارغة كنت قد التقطتها لأكتب عليها اسم متهم جديد، لكنني اكتشفت أنني غير مهتم بالبحث عن هذا الشخص إلا لو كان بغرض أن أشكره…
فمزّقت كل الأوراق، ثم قمت والتقطت إحدى الروايات، وعدت لأستلقي على أرض الحديقة الخضراء ذات الحشائش الباردة، فتسرّب نداها البارد عبر ملابسي وأصابني بقشعريرة حانية، بأصابعها كانت تدغدغ مشاعري وترحّب بعودتي.
شغّلت موسيقى (Nostalgia) التي أبدع الموسيقار (Yanni) وفرقته في عزفها، ثم شردت في ذلك الوجه الملائكيّ المُكتنز الخدود، ذو البشرة شاهقة البياض، تُزيّنها نمشات حمراء كبتلات ورود تساقطت من السماء، ويحدّه شعر أشقر ناعم ينسدل على الجبين بطاعة، وينتهي على حافة الحاجبين بحسمٍ واحترامٍ شديدَين، فرضه عليه مقصّ أمٍّ أرادت أن تُخلّد ذكرى ابنتها في قلب أحدهم.
استحضرت ذلك القوام النحيف المستوي، الذي لم يلفظ بلفظة أنوثة واحدة بعد، لكنه أسر القلب وحرّك المشاعر البريئة الصادقة، البكر الصافية، بغير غرضٍ أو معنىً خلاف الحب، كانت الوحيدة التي بحثت عنها على صفحات التواصل الاجتماعيّ بلهفة، لكنني لم أصل إليها.
لذلك، لستُ حزينًا على غلق تلك الصفحات.