السبت, يونيو 14, 2025
Dawen APP
الرئيسيةمقالاتأقدار إغريقية.. أوديسيوس وبندورا وعلي بابا وغيرهم (1)

أقدار إغريقية.. أوديسيوس وبندورا وعلي بابا وغيرهم (1)

احذر من الإغريق وهداياهم!
هكذا ينبثق التحذير من شفتي العرّاف لملك طروادة. يمكنك تخيّل المشهد الخلاب والمروّع في آنٍ واحد؛ أمواج البحر تتلاطم، تثور وتهيج، والمحيط كله يزأر بغضب بوسيدون، إله البحار عند الإغريق. وعلى الشاطئ، تقبع حصون أجمل مدينة في العالم: طروادة، حيث الفن والجمال واللذة وكل ما طاب مما هو حلو.
هذا الجمال الفاتن هو ما أثار حنق المحاربين غلاظ القلوب، وأتوا من بقاع مملكة الإغريق، من أثينا عاصمتهم، ليحاصروا تلك المدينة لأعوام…
كلٌّ منهم يبحث عن مجده الخاص: أخيل، الأقوى بلا منازع، الذي غمسته أمه عند ولادته في بحيرة سحرية ليكتسب جسده مناعة أمام كل محاولات الغدر، لكنها نسيت كعبه بالطبع، الذي كانت تمسكه منه وهو طفل لتحمّمه في البحيرة…

تذكّر كعب أخيل، فسوف نتطرّق إليه خلال ثوانٍ…

وهناك أوديسيوس، الذي كان يثير غيرة الآلهة بدهائه ومكره وذكائه…
قصة طويلة وجميلة هي، قصة طروادة، ومناسبة لكل العصور.
هيلين، أميرة الإغريق، تقع في غرام أمير طروادة وتهرب معه. اسمه باريس، ولعلّك تعرف أخاه المحارب الأشهر: هكتور، والصراع الأبدي بينه وبين عدوه اللدود أخيل.

“احذر من الإغريق وهداياهم!”
هكذا يتمتم العراف، عندما يستيقظون ذات صباح ليجدوا أن قوات الإغريق قد ولّت بعيدًا، والبصّاصون يخبرون الملك بأن الإغريق قد استسلموا أخيرًا، بعد حربٍ وحصارٍ داما لأعوام…

وبعدما قتل أخيل هكتور في مشهدٍ رهيب…

والآن يمكننا أن نتوقّف لبرهة لنشير إلى شيء ما:
الأقدار الإغريقية…
هذا شيء ستلاحظه بشدة في كتابات هوميروس، سواء كانت الإلياذة (قصة طروادة) أو الأوديسا.

هكتور لم يكن يريد أن يحارب أخيل، لكنه، رغم كل محاولاته للانفلات من الأمر، اتّبع قدره المحتوم.
أخيل لم يكن يريد الذهاب لطروادة، لكن نفسه غلبته، ولم يستطع مقاومة قدره.
باريس نفسه لم يكن يريد أن “يسرق” هيلين، أميرة طروادة…

لكن الكل، رغم مشاعرهم ومحاولاتهم بعد اقتراف الأمر، كانوا يتبعون أقدارهم، بأداءٍ مرسومٍ لشخصياتٍ في مسرحٍ ما…

هناك هذا المشهد الرهيب والمعبر في الأوديسا: والدة أوديسيوس تقرّر الانتحار لأن ابنها لم يعد من الحرب بعد.
زوجة ابنها تتوسّل إليها على الشاطئ كي لا تُغرق نفسها…
تجذبها من أطراف قدميها…
تقف أمامها وتصرخ كالمجنونة وهي تهيب بالمرأة ألّا تُغرق نفسها…
ترى الدموع في عيني والدة أوديسيوس، والألم باديًا في قلبها، لكنها تغالب نفسها وتقول في كبرياء وهي تمسح دموعها:
لا بد أن أفعل هذا…

وطبعًا، لتُغرق نفسها وتقابل روحها ابنها عندما يزور أوديسيوس مملكة الموتى لمقابلة الفيلسوف الضرير الذي عرف الحقيقة وتساعد ابنها. كأنما كل شيءٍ مرتب، والأقدار تعزف لحنًا خفيًا في الأرجاء…

هذا هو القدر في الأساطير الإغريقية، والذي عبّر عنه هوميروس بعبقرية.
لأن هذا القدر لم يكن سوى لاوعي الشخصيات، كبرياؤهم، أو “الأنا”، أو الرغبة الخفية التي تجعلهم يتصرفون.
تذكّر جملة فرويد:
“ما تتركه كلاوعي في حياتك لن يظل دفينًا، بل سوف يسير حياتك كلها في صورة قدر.”

والآن، تأمّل معي المشهد التالي:
الملك يقف مع جنوده على الشاطئ، ينظرون إلى الهدية العملاقة التي تركها لهم الإغريق عقب رحيلهم: حصان كبير وجميل من الخشب. عملاق، لو أردت الدقة…
هذا الملك، الفيلسوف، ذو الحس الفني، الذي صمد وحمى مدينته لأعوام في تلك الحرب المريرة، لم يستطع مقاومة الهدية.
لم يستمع لتحذير العراف:
“احذر من الإغريق وهداياهم!”
Beware the Greeks and their gifts

في حكايات هوميروس دومًا، تمرّ الشخصيات بتلك اللحظة…
ترى الصراع بين اثنين بداخلهم: الجزء الواعي، صاحب الهوية، واللاوعي الرهيب، الذي يأتي كردة فعلٍ للأمور…

ويتبع الملك قدره ويقبل بالحصان، ويتصرّف أهل طروادة بطيبة، كما تحتم عليهم سجيتهم، كما هو متوقّع من مدينة قائمة على الفن والحب وغيره…
فيحتفلون، ويرسمون، ويغنّون، ويثملون، ويتضاجعون في تلك الليلة…
وعندما يحلّ الليل…

يبدأ الجنود الإغريق، بقيادة أوديسيوس، في التسلّل من الحصان الخشبي. يفتحون أبواب المدينة للجيش الإغريقي المختبئ…
تعبير “الحرب خدعة” أتى إلينا بسبب تلك الحكاية…

أوديسيوس هو صاحب فكرة حصان طروادة، الهدية الإغريقية الشهيرة.
وتحدث المذبحة، وتتحوّل طروادة إلى أنقاض.
يموت أخيل إثر سهمٍ مسمومٍ أصابه في كاحله أو كعبه…

قلت لك أن تتذكّر كعب أخيل…

مثلما حذّرته عرّافة قبيل رحيله من أثينا إلى طروادة:
“لو ذهبت، ستجد المجد… لكنك لن تعود.”
لعبة الأقدار الإغريقية مرةً أخرى…

هناك كاساندرا كذلك، موهبتها الاستبصار، ولعنتها ألّا يصدقها أحد…

وطبعًا، نرى بعدها في ملحمة حكاية عودة أوديسيوس، رحلة رهيبة لشخصية هذا الرجل، الذي يضلّ طريقه في البحار…
لعلّه عقاب على ما فعله في طروادة…
أو هو ما يحدث لمن يصل للمجد…

هناك رمزية في حكاية أوديسيوس شبيهة بأيكاروس، الذي صنع أول طائرة جناحيها من شمع، وحلّق بعيدًا، محققًا حلمه…
لكنه اقترب من الشمس، الحقيقة، أكثر من اللازم، ليذوب جناحاه ويسقط صريعًا…

أما أوديسيوس، فقد واجه الأمرين…
خمسة عشر عامًا وهو يحاول العودة لزوجته وابنه وبيته…
ويواجه في رحلته نداءات البحر، والغول ذو العين الواحدة، السيكلوب، ويذهب لمملكة الموتى للقاء الفيلسوف الضرير، وهناك الأمراء الذين أرادوا امرأته وبيته ومملكته…

خمسة عشر عامًا! والكل يعتقد أنه قد مات…
هذا شيء آخر ستجده في الأوديسا، الأمل!
ولعل أكثر مشهد مخيف في الحكاية، عندما يدخل أوديسيوس بيت الساحرة في الجزيرة، ليقضي معها خمس دقائق، لتخبره ساخرة أن الدقيقة في هذا القصر بمثابة عام.
ينتاب أوديسيوس الذعر ويهرب من القصر إلى بحارته وسفينته، التي من المفترض أنه تركهم لخمس دقائق، ليجدهم قد نفقوا جوعًا، والسفينة أضحت حطامًا بسبب المد… خمسة أعوام وليست خمس دقائق! هناك رعب في مسألة الوقت هذه…
تذكر أيضًا حكاية صندوق بندورا، برومثيوس الذي سرق النار ووهبها للبشر ليعطيهم الدفء، فغضبت عليه الآلهة ونفته، وعلّقوه على صخر ليأكل طائر الرخ من كبده، قبل أن ينمو له مجددًا فقط ليحرره هرقل.
يذهب برومثيوس ليعيش في قرية بعيدة ويتزوج أخيه من أجمل فتاة في القرية، بندورا.
فترسل إليهم الآلهة صندوقًا، يحذرهم برومثيوس من فتحه، لكن فضول بندورا الأنثوي يتغلب عليها، فتفتح الصندوق…
فقط لتخرج منه كل الأرواح الآثمة وتحل على البشر: الغيرة، الغضب، الخوف… إلخ.
تجزع بندورا وتغلق الصندوق، حابسة الروح الأخيرة التي لم تخرج بعد: الأمل!

وهناك الفتى الجميل، المحب لنفسه، الذي كان يتأمل انعكاسه بحب على سطح البحيرة جوار أزهار النرجس، فعرف العالم مصطلح “نرجسي”.
هناك عقدة إليكترا وغيرها… العديد من مصطلحات علم النفس أتت من الأساطير الإغريقية.

هل القدر الإغريقي هو اللاوعي؟ ردة الفعل الغريزية التي نتخذها ونفكر لاحقًا؟
ماذا عن المينوتور وميدوسا؟ زيوس وشهواته؟ رحلات هرقل نفسه؟ مملكة الموتى والأسرار التي تنتظر من يجرؤ على الذهاب للعالم السفلي؟ الهيدرا والجرجونات؟

ليومنا هذا، تُعد رواية أوديسيوس هي الأفضل والأروع مما كُتب في التاريخ…
حكاية منذ 2700 عام عن رجل يحاول أن يجد بيته بعد أن ضل طريقه.
البعض يرى أن الأهوال والمسوخ التي واجهها هي محاولاته لفهم ظلام مملكة عقله بعد وصوله لمبتغاه في طروادة.
آخرون يرون أنها كانت مسوخًا كما يجب لها أن تكون، لأن كل من يحاول أن يجد بيته، سوف يلاقي مسوخًا في الرحلة!

وفي القرن الخامس الميلادي كتب الكاتب المسرحي، والإغريقي، أخيلوس، أن أعماله الأدبية لا تعدو أن تكون فتاتًا من مأدبة ما كتبه هومير أو هوميروس.
وأشار لوصف الأزهار التي تنمو خارج عروس البحار “كاليسو”، أو هيئة خراف السايكلوب، كدلالة أدبية لهذا…

أنت تقرأ هذا المقال في عام 2025، أو ربما عام 2035 لو أنك من جيل قادم.
والمخرج كريستوفر نولان بصدد تقديم نسخة جديدة من أوديسيوس،
ولعل نسختي المفضلة للحظة هذه هي نسخة آرماند آسانتي في التسعينات،
يمكنك مشاهدتها، ومشاهدة فيلم “طروادة”، لفهم أكثر ما أعنيه بالقدر الإغريقي…

لكن بيني وبينك، أنا أرى هذا القدر حولنا في كل صوب…
تلك النظرة الزائغة في عين رجل بصدد أن يتشاجر مع آخر في الشارع…
كأنهم لا يريدون فعل هذا، لكن الغضب، الأنا، الكبرياء، اللاوعي بداخلهم يحرك الستارة مبتسمًا…
غريب هو كل ما يقبع خلف الستارة!

لماذا ارتبط المأذون بالحانوتي في الوجدان الجمعي للساخرين عبر التاريخ؟
لعبة الأقدار مرة أخرى، لو فهمت مقصدي…

على عكس “ألف ليلة وليلة”، سترى تشابهًا رهيبًا أيضًا في الحكايات،
لكن الشخصيات هنا تقوم بما تقوم اضطرارًا،
مثل وزير هارون الرشيد الذي يحقق في جريمة قتل لجثة غامضة، يعترف اثنان بأنهما “القاتل”، وهو يلعب دور المحقق لإنقاذ رأس ابنته في نهاية الأمر…

لا يمكننا الحديث عن الرؤوس بالطبع في “ألف ليلة وليلة” دون ذكر شهرزاد وشهريار والسياف إياه…
شهرزاد الجميلة، الفاتنة، التي استخدمت خيالها وسعة حيلتها لتنجو من جنون شهريار وغضبه، لتحكي حكاية تلو الأخرى…
ونقابل السندباد البحري وعلاء الدين وغيرهما…

ماذا عن حكايات الأطفال؟
ما كتبه الأخوان غريم عن “هانسل وجريتل”، بما أنه “اليوم العائلي للأسرة”،
فهل تعلم علاقة حكايات الأطفال بكل شيء مرتبط بحاضرنا؟
“هانسل وجريتل”، الأخ والأخت، اللذان أتيا من أسرة مفككة، ولذا ضلّا طريقهما في الغابة،
ليجدا بيتًا من الحلوى، به الساحرة الشريرة التي تريد إطعامهم حتى تأكلهم…
يمكنك استنباط الرمزية بنفسك من تلك الحكاية.

ترى، ما الذي فعله الشاطر حسن بـ “ست الحسن” بعدما تزوجها؟
وهل ما أتخيله بصدد “علي بابا والأربعون حرامي” حقيقي؟ لا أعتقد أنه مناسب للحديث عنه في “يوم الأسرة”…

أشياء وأشياء وأشياء… تلك هي عادة الخيال…

لنعد مرة أخرى لشاطئ طروادة، الملك يقف أمام الحصان الخشبي العملاق، أمواج البحر تتلاطم وتثور وتهيج…
والعراف يردد: “احذر الإغريق وهداياهم…”

 أقدار إغريقية

Khaled Amin
Khaled Amin
خالد أمين: كاتب وروائي مصري مهتم بأدب الرعب والتشويق والجريمة. من مواليد القاهرة عام 1989. يعمل كمحاضر أكاديمي في قطاع الجامعة ومدرب شركات خاصة, اهتم بدراسة الأدب الأمريكي والكتابة السينمائية وأدب الرعب والخيال والجريمة, صدر له رواية "هوس" عام 2012, ورواية "الشبيحة" عام 2013, وسلسلة روايات بعنوان "المجهول إكس" يصدر منها عدة أجزاء سنويًا, كما صدر له رواية "هؤلاء الذين عادوا" عام 2018, ورواية "إنهم يأتون ليلًا" عام 2019, "ليلة ظهور القرين", "زائر منتصف الليل" وتعد رواية "وقريبا سيحل الظلام" هي أحدث أعماله الأدبية.
مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات