إسراء إبراهيم
“هل هذه هي الكتابة إذا؟ أن تفرغ نفسك قطرة قطرة، حتى إذا قطعت شوطا، ووقفت لتلقي نظرة، فإذا بك تدهش بحقائق غير الحقائق، وألم لا يشبه الألم الذي جربته وقررت تعريته.”.. لم تفرغ إيمان جبل في روايتها “لعبة البيت” نفسها قطرة قطرة على ورق، بل استحوذت على مشاعر كل من قرأ الرواية معها من جمال وروعة ما يصله من مشاعر وأحاسيس غاية في الألم.
تدور رواية “لعبة البيت” الصادرة عن دار دوِّن للنشر والتوزيع، في إطار من الفانتازيا والخيال، بأجواء تشويقية مثيرة. فتبدأ باختفاء غامض للفتاة “ماتيلد” التي ستتعاطف معها في البداية ثم ستسلبها الكاتبة بمرور الصفحات ذلك التعاطف، لتصبح خالتها “ليلى” هي الوحيدة التي تستحق كسب التعاطف.
للقراءة| فداء الرسول يكتب: “لعبة البيت” بين متاهات الحلم وقيود البيت
تصف الكاتبة في البداية منزل “ماتيلد” و”ليلى” كما لو أنه الجنة، لكنك ستكتشف أنها اللعنة المستمرة في حياة كل من سكنه. بيت مسموم بث سمومه في جميع أفراد قاطنيه، أسرة مفككة ملأتها النرجسية والطمع في كسب مكانة اجتماعية ومجدا مزيفين، دون الانتباه للحياة التي يسلوبها من ابنتهم “ليلى”، وضياع حياتهم مع تلك الأشياء الزائفة.
تعاملت إيمان جبل مع نصها بذكاء ومهارة جراح متمرس قادرا بمشرطه أن يصل إلى أدق مصادر الألم، فجعلتك لا تقرأ نصا بل تشعر وتعاني بكل تفصيلة يشعر بها الأبطال، مشاعر تأسرك بسحرها وتأثيرها. ستجد نفسك في زاوية ما من الوصف المكثف للمشاعر التي شعرت بها “ليلى”، سيكون لك نفس الشعور حتما في إحدى وصفاتها التشريحية عن الألم والمعاناة.
ركزت الرواية على العلاقات بشكل عام، وبشكل خاص على العلاقة الأسرية التي قد تجعلك أعظم إنسانا في الحياة دون أي إنجاز يذكر، أو كأنك نكرة لم تأتِ للحياة من الأصل رغم كل جهودك لإثبات الوجود، تجعلك تفكر هل نحن الأبناء يمتلكنا أهلنا أم نحن خاضعون إليهم بمحض إرادتنا. أهل “ليلى” تمكنوا من استنزافها إنسانيا، جعلوها تشعر وكأنها أقل من البشر رغم كل نقاء روحها، الأهل وحدهم قادرون على منحك الحياة أو سلبك الحق فيها.
البيت المسموم نقل سُمه إلى كل من بالبيت، حتى الطفلة “ماتيلد” التي كان تأثيرها على خالتها أقبح مما فعله بها والديها، لأنها حاولت من خلالها البحث عن حياة لنفسها، لكن الطفلة سلبت خالتها تلك الحياة المتخيلة، ولأول مرة استطاع ذلك الألم صُنع كاتبة جيدة من “ليلى” التي انتقمت من ابنة أخيها بالكتابة.
كانت قصة الحب بين “ليلى” و”عاصم” رقيقة كنسمات الهواء في فصل شديد الحرارة، كان “عاصم” هو الدواء الوحيد الذي تعيش “ليلى” على أمل تناوله. وظهرت القصة بعنوان “الحب الأفلاطوني” الذي تجرد من كل الشهوات والملذات الدنيوية ولم تنال منه السنوات، فلم يكن الجسد هو هدفهما من العلاقة، كانت الروح مصدر التلاقي والأنُس الذي وجداه في أنفسهما.
تناولت الكاتبة فكرة السجن بشكل مختلف، فالأبطال يعيشون في حلقات تؤدي بعضها إلى بعض وكأننا في سجن كبير، حيث صنعت “ليلى” سجنا غريبا لابنة أخيها “ماتيلد” لتتخلص من خلاله من سجن مشاعرها وأفكارها بل وعدم قدرتها على الكتابة، ظلت ليلى حبيسة البيت والأهل والخوف والمسؤوليات والمجتمع لسنوات، سنوات من السجن جردتها من “ليلى”، حتى سجنها والدها بالفعل في سجن استغلته للتحرر عبر ابنة أخيها. كان سجن “ماتيلد” رحلة تحرر نفسية كبيرة لخالتها “ليلى”، التي أعطت نفسها فرصة أخيرة للحياة بإعلان بيع السجن الأكبر وهو البيت، ومحاولتها العيش مع “عاصم” بعد سنوات من الفراق الاختياري.
“لعبة البيت” رواية فلسفية عميقة، مليئة بمشاعر مكثفة من الألم والإحباط، تنخرط بين طيات صفحاتها وتتملكك بشكل يجعلك تشعر بالخذلان لأنها انتهت.