السبت, يونيو 14, 2025
Dawen APP
الرئيسيةمقالاتالسباحة في جذور الشخصية في رواية "عابرون".. من وقائع تحقيقات عربة القهوة

السباحة في جذور الشخصية في رواية “عابرون”.. من وقائع تحقيقات عربة القهوة

أيمن رجب طاهر

الرحلة… القطار،

رمزان متوازيا الدلالة، الرحلة هي أيام كل منا التي يعيشها بكل ما فيها،  والقطار هو سنوات عمرنا التي تمر بنمط سريع أحيانًا وبطئ في كثير من الأحايين والرسو في محطات توشم الذاكرة بمواقف لا تنسى..  

منذ الإهداء

“إلى تلك الأرواح التي تجوب الكون ساعة من الزمان وعمرًا في الأحلام، كنتم دومًا روح قلمي فلا تكفوا عن الحلم وإن كان ساعة في عمر الحقيقة”

تخمّن أن الكاتبة سمر عبد العظيم ستستدرجك كقارئ إلى عوالم أصحاب تلك الأرواح بشخوصها المتنوعة ذات الجذور المتباينة، فما يتعرّف عليه المتلقي من سلوك أبطال رواية (عابرون) هو نتيجة لا مقدمات تخفي جذورًا تشكلت منها صفات تلك الشخصيات وإذا علمنا أن مفهوم الشخصية يشير إلى نمط الأفكار والمشاعر والتكيفات الاجتماعية والسلوكيات التي تظهر باستمرار، والتي تؤثر على توقعات الفرد ومفاهيمه الذاتية وقيمه ومواقفه إلى حد كبير فتتنبأ الشخصية بردود الأفعال البشرية تجاه الأشخاص الآخرين، والمشاكل، والتوتر.

وهذا ما يلتمسه القارئ في عابرون، فقد دأبت الكاتبة في تقديم (Archeology) لذاكرة كل شخصية ونبشت في حفرياتها لتستنطق تاريخها.

فـ هيام ونشأتها في بيت انعدم فيه الحوار والخصوصية، وخيالها الخصب وغرابة أطوارها (هيام الهستيرية) ورفضها الارتباط بابن عمها…

عزة وطفولتها التي نشأت فيها بشكل عملي فلا تهمها المشاعر الفارغة فعاشت حياة ناجحة بمقاييس السنوات في استقرار نسبي مع زوجها والتقائها مع مهاب في عمر لم يعد للمظهر دور كبير فيه وأصبح للحب مقاييس أخرى

صبي القهوة عطية، أحد لوافظ المجتمع صـ 158 وموئله السكة الحديد ورحلات القطارات اللامنتهية وتنفيذ ما يطلب منه دون نقاش وهو نموذج للشخصية المازوخية، فقد جنحت الكاتبة إلى إبداء مدى ضعف شخوص روايتها بالضرب على مواطن خنوعهم ومواطئ حاجاتهم التي تدفعهم إلى تلبس حالات (المازوخية  Masochism) ومن خصائص هذه الشخصية أنها تسعى بكل الطرق إلى أن تكون في الأماكن والمواقف التي يتوفر لها الأذى فيها، وتسعى لتحقير النفس وإيذائها، مع الشعور بالمتعة واللذة الداخلية عند ممارسة ذلك، بالرغم من الظهور بمظهر الشكوى، والظهور بمظهر الضحية المقهورة. فيعامل (والدة سارة) كمجنونة ويجردها من هاتفها المحمول مقابل خمسة آلاف جنية، هذا المبلغ الذي يراه فرصة عمره دون أن يعلم أن في الأمر قتل واختطاف.

سيد… وأسرته كثيرة العدد ونشأته في الشارع الذي أصبح كل شيء فيه مباحًا فلا مكان للضمير والبقاء للأقوى والقيم تداس بقدم الأذكى. 

سارة… الفتاة الراغبة في الانسلاخ من حياتها المحزونة بفعل فقد الآخر وحبها للمغامرة مما دفعها للاستجابة لدعوة (مجهول) لها في رحلة إلى الجنوب مما جعلها تنساق لخطة الخطف المدبرة والتي كانت ستعرّفها على سيد لولا طمعه في مبلغ أكبر، مما دفع علي لقتله واحتال هو لإكمال عملية الخطف ورغم إحساس سارة بغرابة الشاب المزعوم (سيد) عما تخيلته بأنه أكبر سنًا وملامحه أكثر قسوة وتلك طبعا صفات (علي) المنتحل شخصية سيد إلا أن رغبة المغامرة انتصرت على الحذر وانساقت وراء مختطفيها.

وشئت أم أبيت أيها القارئ لرواية عابرون ستدفعك الكاتبة إلى مشاركتها الأحداث عن طرق فجوات تركتها مفتوحة مثل حادثة خطف سارة والغموض المحيط بها إلى أن تقدم لك مفتاح اللغز منقوصًا أيضا فتستنتج في لحظة تنوير خاطفة أن من خطط لخطفها هو سيد المقتول وأن خاطفها هو علي… 

ومن خلال الغوص في جذور تلك الشخوص طفا على السطح تمازج وقعات الرواية وتشابك حوادثها في زمن ساعات السفر بكل ما تحمل من حب ونفور وقرب وبُعد وتجاوب مما شكّل عالم الرواية الفريد متقاطعًا مع اكتشاف تلك الجريمة الغامضة التي تسابق المحققون مع الزمن في استجلاء سرّها، عبّرت عنه د/سمر عبد العظيم في لغة غنية مترعة بمصطلحات هذا النوع من الحوادث من وصف لإصابة القتيل وتحليل كامل للواقعة حتى تخمين هيئة مقترف الجريمة ودوافعه مما يضيّق الخناق حوله لمعرفته

تلك اللغة الطيعة ذات المرونة هي نفسها التي عبّرت بها عن مكنون كل شخصية وتحولاتها الفكرية والعاطفية والنفسية، وهي اللغة نفسها التي مررت من خلالها الكاتبة فلسفة شخوصها “… لكي تبعد الإنسان عن فطرته عليك أن توهمه أن الفهم صعب، وعليه ألا يحاول الفهم، عليه فقط أن يأخذ الفهم ممن يملك الفهم”صـ 79 

“الجميع يدعي الفضيلة فيما يخص الآخرين، ويشرع في فرضها، وراء الأبواب المغلقة فضيلة الجميع منتقصة ولكن مساحة التفهم تكاد تكون معدومة وإذا انكشف ستر أحد، تظهر سادية الناس ويبدأ الجلد دون رحمة ” صـ167

بعد رحلة العواطف والجريمة والأحداث المتتالية في حميمية دفعتني إلى اللهاث خلف السطور لمعرفة ما يستجد، أجدني مائلا إلى تلك الحمامة البيضاء المرسومة على غلاف الرواية وهي تفرد جناحيها استعدادًا للهبوط رمز الانعتاق من براثن العادة وقيود الآخر، هذه الرواية هي حياة كل منا وتلك الحمامة هي حلم لا نريد الاستفاقة منه لكن ذلك يحدث لا محالة حين يصل القطار إلى محطته الأخيرة.

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات