السبت, نوفمبر 23, 2024
Dawen APP
الرئيسيةمقالاتخالد أمين يكتب: أسرار أدب الرعب (4).. خفايا منتصف الليل

خالد أمين يكتب: أسرار أدب الرعب (4).. خفايا منتصف الليل

هل انتهى يومكم بعد؟ لقد حان وقت الاسترخاء، نحن في هدنة مع الواقع الآن، لا زحام ولا جو قانت.. فراش وقدح شيكولاته ساخن وخيال.. الكثير من الخيال الآن.. هل أنتم مستعدون؟ لنغمض أعيننا ونرحل لهذا العالم الآخر السحري.

مرحبا بكم في تلك الغابة المسحورة القديمة قدم التاريخ نفسه.. مرحبا بكم وسط الأشجار والأرض الطينية.. اخطوا بهدوء كي لا تزعجوا الموتى المدفونين في كل صوب.. يسطع القمر المكتمل وتهب الرياح.. ويسود ظلام الليل الأرجاء.. ليعوي المذؤوب بشجن.. وتحلق الخفافيش.. هل ترون هذا الكوخ في منتصف الغابة جوار المستنقعات؟ لنتسلل إليه ولكن سيروا الهويدًا.. لا يجب أن نحدث الجلبة، لا تنظروا ورائكم، وأكرر.. لا تحاولوا النظر لهذا الشيء القادم من المستنقعات.. لنذهب فقط للكوخ ونرى ما الذي يحدث بداخله..

تنتهي الروائية وخبيرة علم النفس ناردين الصباغ من حل وثاق البروفيسور فان هيلسنج الذي يقف وينفض ذراعيه قبل أن يقول بلكنته العتيدة: شكرًا لك يا فتاة، لكني قادر على العناية بمشاكلي

– آه كبريائك التقليدي هذا يا بروفيسور ، لقد أنقذتك من مسخ كثولو ودراكولا، ولم يبد لي أنك كنت مسيطرا على زمام الأمور

احتقن وجه فان هيلسنج فسارعت ناردين مردفة: آه لا أقصد الإساءة صدقني، أنا من أشد المعجبين بك وقد تعلمت الكثير منك، بل أن فكرة إحضار كتاب النيكرونمكان معي لتلو التعويذة القادرة على حبس كثولو كانت مستلهمه منك

فكر هلسنج في كلامها قليلًا ثم هز رأسه، جذبت ناردين مقعدًا له وهمست: كلانا يعرف أننا هنا لسبب آخر بخلاف دراكولا وكثولو.. نحن هنا لحل لغز الألغاز ، والإجابة عن السؤال الأكثر رعبًا في التاريخ، ولكن لم يحن وقت هذا بعد

فكر هلسنج قليلًا ثم هز رأسه وصدق القول: نعم لن يحن وقت هذا بعد

عوى المذؤوب بالخارج وتردد العواء عبر الغابة كلها فهمست ناردين: تقول الأسطورة القديمة أن المستذئب هو رجل عشق القمر، ويعوي كل ليلة بحسرة لمدى بعد حبيبته عنه.. تقول أسطورة أخرى أن الرجل الذئب له أصول عربية.. أه نعم نعم

ولوحت ناردين بيدها في حماس قبل أن تردف باستمتاع: لنزجي الوقت بالحديث عن أصول الأساطير قبل أن يحين موعد سبب قدومنا للكوخ، تلك اللحظة الرهيبة التي سنعرف فيها حقيقة الكون كله

هز فان هيلسنج كتفيه وابتسم لحماسة الفتاة ذات العوينات والشعر الأسود، وتردد عواء الذئب مرة أخرى بينما ناردين تهم بالحديث:

أرى أننا في شيء أشبه بألف ليلة وليلة، لنحكي قبل أن يحل الغسق أو يطير شهريار عنقنا، آه من أين أبدأ الحديث عن الرعب والخيال؟ وعلاقته العجيبة بالعلم والتطور الحضاري! يا لعواء الذئب هذا، هل تعرفون أصل حكاية الرجل الذئب؟ في القدم شوهدت عدة حالات نادرة لقوم شديدوا الشحوب، مستطيلون الأنياب، يعوون عند رؤية القمر ولا يتحملون رؤية الشمس، تحدث ابن سينا عن تلك الظاهرة وأسماها بداء القطرب، وفي اللاتينية تعارفوا عليها باسم “لايكا اثنروبي” أي التصور الذئبي، وكل تلك الأعراض والمسميات تشير لمرض البورفيريا، وهو مرض شديد الندرة ينتج عن خلل في الحديد والدم، ويتسبب في حدوث الأعراض السابقة، لكن الروحانين من تلك الحقبة يزعمون أن هذا التفسير الطبي غير صحيح -مثله مثل التفسير الطبي الغير مكتمل لشلل النوم- وأن حقيقة الأمر هي إصابة الشخص بداء الذئب، أو أنه يتحول لمصاص دماء!

في الشرق اعتادوا الميل لنظرية الاستحواذ الشيطاني ومس الجن لكن في العديد من قرى العرب تحدثوا أيضًا عن المستذئب..
للدقة الطبية علينا الإقرار أن مرض البورفيريا حقيقي، لكن ما هو تفسير الجثث الخالية من الدماء والثقوب في أعناقهم داخل المقبرة الآدمية التي وجدوها في جزيرة إسبانية؟ أو أشلاء قبيلة الغجر في هنغاريا في ليلة القمر المكتمل وكيف أن الناجية الوحيدة ظلت تردد كلمة المذؤوب؟ زعم فرويد بعد دراسة تلك الحالات أن الخلل النفسي واضطراب الهوية جعلت القاتل -أو القتلة- يرتكبون تلك الجرائم تحت قناعة أنهم مستذئبين، بالمناسبة مريض البورفيريا أحيانا يصاب بهلوسة وقناعة حقيقية أنه يتحول لذئب.

وفي تحليل عميق لسلفادور دالي، أشار الأخير أن المستذئب رمزية للطبقة الفقيرة، لكني أعتقد -وبشكل واضح- أن أسطورة الرجل الذئب لهي رمزية مباشرة لشهوة الإنسان وجشعه وكيف أنه كلما زاد الكبت والنفاق الاجتماعي ازدادت شراسة الذئب بداخلنا.. لقد تحدث إليكم فان هلسنج عن علاقة الرمزية بأدب الرعب فلن أتطرق مرة أخرى لهذا الأمر، لكني أوافقه الرأي تمامًا، وبما أن كثولو ودراكولا تحدثوا عن ألف ليلة وليلة والأساطير الأغريقية والفرعونية والتراث العربي وعلاقته بالرعب فلن أذهب هناك أيضًا، لكني سأذكر سريعًا ميزة أخرى لأدب الرعب وهي قدرته على التشكل، مثل الحرباء، آه دعوني أوضح مقصدي قبل أن تنظروا لي بغرابة، ولا ترفع حاجبك في تشكك كهذا يا فان هيلسنج.. أسطورة ميدوسا في حكايات الأغريق، هذا الكائن ذو الثعابين في رأسه القادر على تحويل من ينظر لعينيه لتمثال من حجر، والمينتور، المسخ المهجن من نصف ثور ونصف بشري، يهيم في متاهته الشهيرة ليفتك بضحاياه، تلك الحكايات لهي في الأصل حكايات مغامرة وخيال، مثلما مسرحية روميو وجوليوت في الأصل حكاية رومانسية، ولكن الرعب اعتاد التسلل للحكايات الكلاسيكية وتقديمها في إطار عوالمه الممتلئة بالجماجم والدماء، فتجد فيلم هامر الستيناتي الشهير عن ميدوسا أو قصة د. أحمد خالد توفيق المرعبة عن الميناتور وهكذا.. بل أن رواية كبرياء وتحامل Pride and prejudice
قد قدمت كفيلم بنفس العنوان مع إضافة كلمة الموتى الأحياء “زومبيز” للعنوان في قالب رعب كوميدي و..

في ملل يقاطع فان هلسنج ناردين: لقد تحدثت سابقًا عن مرونة الرعب وكيف أنه قادر على التداخل مع أنواع الفنون الأخرى

– لكني هنا أتحدث عن قدرته على استحواذ الفنون الأخرى وفي هذا فارق كبير

– حسنا حسنا

– أنت نافذ الصبر حقًا

– لم لا تحدثينهم عن شيء أكثر إثارة، عامل مشترك بين الرجل الذئب وميدوسا والميناتور وقدرة أدب الرعب على التشكل والرمزية.. كل هؤلاء المسوخ يشعرون بالعزلة والوحدة أليس كذلك؟ والوحدة هي الابن غير الشرعي للعامل المشترك الذي ألمح إليه

– همم ماذا تقصد؟

– فكري يا فتاة

تعقد ناردين حاجبيها، تزوم بشفتيها، ويتسلل لعينيها تعبير من التحدي قبل أن تصيح بحماس: هل تقصد الشيء الأكثر رعبًا على الإطلاق؟ الحب؟

يبتسم فان هلسنج ويوميء برأسه فتتابع ناردين: في النظريات القوطية الكلاسيكية، تم طرح فرضية أن الحب هو وجه آخر للرعب، وقد طور ألفريد هيتشكوك تلك القاعدة السيريالية عندما قال: “قدم مشاهد الحب في حكايتك كأنها مشاهد قتل، ومشاهد القتل كأنها حب”.. حسب تلك النظرية فإن الحب كائن مرضي شرير يستحوذ عليك ويسلبك إرادتك وطاقتك، يسبب لك الإعياء والهوس وكل المشاعر السلبية -كتلك التي خرجت من صندوق بندورا- مثل الغيرة والغضب والشهوة والجنون، ويسبب لك طاقة كراهية وغضب مدفونة بداخلك. “ملحوظة: تلك النظرية من خيال المؤلف ولا وجود لها في الأدب القوطي الكلاسيكي” مثلما يحدث لضحية مصاص الدماء قبل أن يتحول بدوره أو ظهور مصاص الدماء النفسي الذي يتطفل ويتغذى على طاقة الآخرون في الأدب المعاصر .

يبتسم فان هيلسنج وهو يقول لناردين: أعتقد أنك قدمتي تلك النظرية في روايتك “ذات مرة في الطريق المظلم” حيث إن الحب في تلك الرواية هو المسخ الشرير

تبتسم ناردين ولا تعلق قبل أن تكمل حديثها: طبعًا هناك نظريات أخرى أكثر تفائلًا بخصوص الحب، على أي حال، كما قلنا سابقًا، الغموض هو أن تحجب معلومة عن قرائك والتشويق هو أن تجعلهم يعرفون أن القاتل يختبىء في المقعد الخلفي للسيارة بينما الراكبة لا تعرف هذا، الصدمة هي أن تعود لدارك لتكتشف أن رأس صديقك في ثلاجتك، وأعتقد أن الحب يحمل بين طياته تلك العوامل الثلاث، الغموض والتشويق والصدمة.. لكن البعض يقع في خطأ محوري وهو جعل كل شيء يدور حول الحب فحسب، لذا تألق كتاب مثل ستوكر وشيلي وكينغ ولافكرافت، لأنهم اهتموا بالحبكة والشخصيات سواء، هل تفهم قصدي؟ كان حديثا لطيفا عن الحب والرعب والرجل الذئب والفن أليس كذلك؟ آه فان هيلسنج ما بك؟

كان الأخير شاردًا ويحدق بالنافذة ثم وقف دون كلام وسار للأمام، تابعته ناردين وهو ينحني لينظر من نافذة الكوخ، ظل على حالته تلك لوهلة ثم التفت وهمس لناردين: هل تعلمين تلك الجملة القديمة عن الحقيقة؟ كيف أنها دومًا صادمة، هل تعلمين أن الفراعنة هم أول من تحدثوا عن الماورائيات في مخطوطاتهم، بالأخص كانوا أول من تحدث عن الأشباح الصاخبة Poltergeist وكيف أنه عندما يموت أحد ميتة عنيفة في مكان ما فإن روحه تظل عالقة في هذا المكان وتحدث صخب وفوضى، هل لا تفهمين علاقة ما أقوله؟ ناردين، أنا قد فهمت الحقيقة، الغموض هو أن تحجب معلومة عن القارئ، التشويق أن تجعل القارئ يعرف قبل الشخصية، والصدمة هي المعلومة التي ستغير كل شيء فجأة، وأنا قد فهمت، هل تعلمين لماذا؟ لأن لكل شيء رد فعل، لكل شيء آخر مضاد له في كل شيء، الخير والشر، الأبيض والأسود، الأشباح الصاخبة لها قرين بدورها، وهي نظرية أن بعض الأماكن تولد شريرة، بطاقة شيطانية هائلة، يا آلهي اغثنا، أشعر بانقباض هائل في صدري ورعب في أحشائي، أعتقد أننا بصدد معرفة الحقيقة الآن، تعالي يا فتاة، تعالي وانظري من النافذة وانظري لما أراه.. تنحني ناردين بتوجس وتنظر لما ينظر إليه فان هيلسنج، قبل أن تشهق وتتراجع للخلف، أمام عينيها المتسعة ينقشع الضباب الهائل ليظهر ما كان يحجبه، قصر قديم وهائل على صخرة عالية، يحيط به سياج مهيب، وهمس كل من فان هيلسنج وناردين في نفس الآونة: قصر سليمان!

في الحكاية القادمة سنذهب مع ناردين وفان هلسنج لأكثر الأماكن شرًا تاريخيا لمقابلة أسوء كوابيس العالم السفلي، وخلال تلك الرحلة سنتعرف أكثر على أبعاد أدب الرعب المختلفة وتأثيره المباشر على شخصياتنا وعقولنا، كما أننا سنقابل مفاجأة أو اثنين المرة القادمة..

فقط تذكر، أنت لا تخاف كونك وحيدًا في الظلام، أنت تخاف حقيقة أنك لست وحدك في الظلام.. وعندما تشعر به يتنفس على مؤخرة عنقك، لا تغمض عينك وتخبر نفسك أنك تحلم، هذا لن يفيدك بشيء عندما يقبض على عنقك ويتنزع لسانك بمخالبه.. “أحلامًا هنيئة لأصحاب الخيال”.

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات