كنت أسير بلا هدف، لا أعتقد أن أسير هو الوصف المناسب لما كنت أفعله، دعوني أحاول البدء مرة أخرى.. كنت أهيم بالطرقات بلا مقصد ولا هدف كقط أليف قررت عائلته البشرية التخلص منه في أقرب زقاق جانبي، أنت ترى الدهشة في عيني القط، عدم استيعاب يليه خوف وتلفت مصحوب بترقب إثر الضوضاء القادمة من على بعد، صريرة إطار سيارة يجفله.
صوت جماعة من الشباب يضحكون تجعله يقفز للخلف، تلك هي مرته الوحيدة في هذا العالم القاس، رويدك حتى تراه القطط الضالة، ردة فعلهم هي ما سيكسر قلبه حتمًا، بعدما يزجره المارة وتمطر عليه السماء، ستعصف به الرياح ولسوف يختبئ في أقرب مكان يقابله وهو صندوق قمامة، هو الذي كان قط شيرازي جميل لا يقرب النفايات وينفر من الروائح الكريهة، يأكل طعام معلب مستورد ويجرع من لبن نقي وكامل الدسم، كل هذا قد ولى الآن، في لحظة غادرة شبيهة بلحظة غدر الأنثى، عاهرة بابيلون قد تركت بصمتها في حياة هذا القط الشيرازي ممتلئ الجسد ذو اللون البني والعينين العسليتين، هو متأهب الآن، شعره منتصف وأذنيه معقوصتين للخلف، الدنيا كلها تنعكس على حدقتي عينيه، نرى متشرد نائم يسب ويبصق ويصيح بغضب هادر.
للقراءة| خالد أمين يكتب: مرآة جميلة تُدعى الفن
لماذا لا يبكي المتشردون؟ أنت لا تبكي عندما تجد نفسك تتعفن وتحلل فوق الأرصفة والبشر يعيشون الرغداء من حولك، أنت تصرخ بغضب عندما تفهم أخيرًا بأنهم يتجنبون النظر إليك، ماذا نرى أيضًا على انعكاس عيني القط؟ رجل يسير واجم بالشارع الرئيسي الموازي للزقاق، لم يكن واجم الوجه فحسب بل أسوده، كأنه سجين في لحظة الإعدام، رفع القط رأسه للحظة وتابع الرجل. يبدو كرجل قد حاول كثيرًا طيلة حياته لتحقيق أحلامه أو أهدافه، عافر مع كل من حوله أن يفهموه، لكنهم هزأوا منه وانتقدوه، لم يجد أحد ليشارك معه مكنونات روحه، ظل يقاتل من أجل هذا طيلة عمره لكنه قد وصل للحظة انكسار جذع الشجرة الذي حاول الصمود أمام الأعصار الأهوج، هو الآن رجل بلا شغف، لا طاقة، هذا الذي كان يملأ الدنيا حديثًا وطاقة وشغف كعارضي السيرك وممثلي المسرح قد أصبح رجل ثقيل اللسان تعذبة فكرة أن ينطق بكلمة واحدة، أحذر الرجل الصامت دومًا واللامبالي، فهو رجل غاضب، فقد هويته وطبيعته.
يرتجف القط مع هطول الأمطار المباغت ويحاول الاختباء مرة أخرى فيزجره المتشرد الغاضب والذي لم يكف عن الحديث من نفسه، قفز القط، والحقيقة أنه اراد لتلك القفزة أن تكون رشيقة لكن حجمه وكسله وأيام الرغد ببيته القديمة حالت بين حدوث هذا، وعليه فقط عدا للأمام بقدر ما استطاع من سرعة، ثم انزوى أسفل طرف صندوق غير مغلق أحكام، إذن فالمتشرد مجنون، يحدث نفسه ويصيح بدون سبب، يتجنبه المدنيون كأنه وباء، فيما بعد سيرى القط الكثير ممن فقدوا عقولهم إبان تجولاته في الشارع، وأحيانًا سيخلط بينهم وبين هؤلاء الذين يسيرون زائغي العينين يرمون بالسباب ويتحرشون ويهددون ويتنمرون بأي أحد عاثر الحظ يقع في طريقهم، رجل كان أو امرأه، طفل أو عجوز، هؤلاء طبقة كاملة من البشر تنظر لباقي المارة -حسب وجهة نظر القط- على أنهم أوغاد مترفون لا يستحقون شيء، ترى ذلك بوضوح في نظراتهم الحاقدة التي تشعر بالجميع بتوتر وخزي، كأنما عليهم الاعتذار لهم عن كونهم سعداء، لكن هل هم سعداء حقًا؟
يطلق القط مواء، هو لا يعلم، يريح يديه الصغيرتين على الأرض المبللة ويضجع مراقبًا، لقد كفت الأمطار ونام المتشرد، حاول أن يعود بأفكاره لموضوع الطبقة الفقيرة التي تتنفس المخدرات ويحكمهم بركان شبه خامد من الغضب، لا يوجد لديهم شيء ليخسروه، ويفضلون الموت على حياتهم المفقرة، يشتهون كل ما يمتلكه غيرهم من طعام ونساء ونقود، لو كان القط قد تذكر أفكاره لفكر أنهم مصدر خطر وإبادة جماعية ستحل عما قريب، لا أحد في أمان الآن.. علق القط وجهه بلسانه، من الأحمق الذي قال إن القطط تمتلك ذاكرة ضعيفة، لقد تذكر كل شيء، أفكاره بخصوص طبقة المخدرين والبلطجية، هنا استرعى انتباهه فتاه تسير وحيدة، نحيفة متوسطة الطول وترتدي قميص أبيض و”جيبة” سوداء تقفل ياقة قميصها وتضم ذراعيها حول صدرها وهي تسير مسرعة.
لم ينخدع القط ، هي لا تحاول أن تتقي العاصفة بل تحاول تجنب نظرات الرجال التي تنهش روحها نهشًا، شعرها الأسود المبلل يلتصق بعنقها إثر الأمطار التي توقفت، للحظة جال بخاطر القط تخيل مضحك، لن تصل تلك الفتاة لبيتها، ستدخل عالم موازي، بطقس شديد الحرارة، ولسوف تقابل رجل برأس حمار، وتدور أحداث كوميدية سخيفة عن أحلام ليالي الصيف، تثائب القط.. وماذا عن الرجل المتشرد؟ هل كان ملك ما؟ نبذته بناته الثلاث بسبب الطمع وسرقوا مملكته؟ ربما الشاب واجم، أسود الوجه هو في الحقيقة فارس يمتلك قلب شاعر، وقد عصفت الحيرة بروحه، أحيانًا عدم اتخاذنا لقرار ما في توقيت حاسم إثر ضعفنا يكون الطرقة الأخيرة التي تنفتح لها أبواب جهنم وسقر من أجلنا، ربما الفتى كان يغمغم: أكون أو لا أكون.
ربما البلطجية التي ذهبت المخدرات بعقولهم، والتي لا تقل خطورتهم عن سائق “ميكروباص” تقليدي معه عشرون راكبا ويقود بسرعة جنونية وبنفس العينين الزائغتين، لعلهم يعملون عند تاجر ربا عجوز، يرسلهم ليحصلوا دوينه كرطل من لحم لهؤلاء التعساء غير القادرين على تسديد ديونهم، هنا رفع القط ذيلة، عندما رأى مراهقة حسناء ذات عينان بهم رومانسية وشعر الكتب والسمفونيات والروايات أجمعين، ترتدي فستان أبيض وتطل برأسها من النافذة، فجأه دخل الزقاق شاب شاحب الوجه هزيل الجسد، قلبه أكبر من جسده كله، تلاقت عيني المحبين وهتف الفتى: من أجلك أنا كل شيء وبدونك لا شيء.
– صه، صه كي لا يسمعك أبي، فالخلاف بين عائلتنا ممتد أبد الآبدين..
شعر القط أنه ليس في مزاج رائق لرومانسية المراهقين تلك، هو جوعان وظمآن، مر أمامه عنكبوت صغير فأشاح بوجهه متقززًا، هو القط الراقي لن يأكل الحشرات، أغمض عينيه بتلذذ وبؤس وتخيل أطباق من السردين واللبن والطعام المعلب إياه.. تنهد القط، الجوع الآثم يغير من روحه، أغمض القط عينيه والتهم العنكبوت بحركة خافتة وهو يغمض عينيه بشمم وكبرياء، كأنه يقول لنفسه أن هذا لا يحدث حقًا في تلك الآونة، فمه ليس ممتلئًا بجثة عنكوب يتم طحنه لفتات الآن، ابتلع القط فريسته، وارتمى كئيبًا.. دافنًا رأسه في بركة من الماء بالأرض الأسفلتيه، وجد نفسه يلعق منها، هذا الظمأ، تلك الرغبات بداخله التي تتحكم بروحه، لم يعد هناك أكل نظيف ولا ماء معقم، لم يعد ملكًا، لقد تخلصوا منه.. أطلق القط مواءً طويلا وحزينا.
ثم رفع رأسه عندما توقفت سيارة فارهة أمام الزقاق، استرعت انتباهه الكامل، حدق القط بالسيارة، بالأحرى بملكة جمال العالم التي جلست بداخلها، خمرية اللون، جلدها ناعم يعدك بملذات أبدية لو لامسته، عنقها طويل تحيط به الحلى، قلادة لا مثيل لها تخفي رأسها في صدرها، فستانها ناعم وفاخر، صمم خصيصَا لها بلا شك، شعرها غجري مجعد وعيناها واسعتان، جسد مستدير يعدك بسعادة لن تحصل عليها أبدًا، حلم بعيد المنى، فجأه توقفت ثلاث سيارات أمام سيارتها الفارهة، بأرقام دول مختلفة، وترجل ثلاث رجال، أحدهم إفريقي والآخر أفرنجي وثالثهم عربي، اقتربوا منها بالدور وكل منهم يعطيها هدية زواج بصندوق مغلق.. يبغون زواجها، وهي لسوف تختار أفضلهم وفقًا للهدية فيما يبدو، تنهد القط.. هذا المشهد لن يعجب جمعيات حقوق المرأه كثيرًا فيما يبدو، انتفض القط البائس عندما تعالى صياح الجيران فجأة، حسنا، لا داع لإنكار حقيقتنا، كذا فكر القط، أنا فضولي ولسوف استرق البصر وأصغى بملء أذني.
تحرك القط وقد تحول لمتلصص ليلي، وزحف وهو يلعن نفسه لانعدام رشاقته محاولًا اعتلاء النافذة دون إحداث جلبة لرؤية ما يجري بالداخل.. هناك زوجة، اه يا إلهي، شخصيتها الكاسحة ذات القوة الهائلة تكاد تطيح به من مكانها، هناك زوج يوليها ظهره وهو يتمتم: لا أستطيع، أنا مخلص له..
– اقتله وستصبح الشركة طوع يديك
– هو أبي الروحي
– كل هذا النفوذ والمال من حقنا، آه اتخيلك وأنت تقتله، وحتى في خيالي لم أتوقع أن الرجل العجوز سينزف كل تلك الدماء..
يضع الزوج وجهه بين راحة يدي، عندما ساد الظلام فجأة، كأنما هناك روح آثمة قد حلت على الزقاق من السماء، وهبت رياح مختلفة، بها حفيف وهمسات ماجنة، هناك غراب يجلس أعلى القط، الذي قفز بذعر للخلف فور رؤيته، قطنا المرفه الذي لم يعرف أن فصيلته تهاجم الطيور، كادت أن تصيبه نوبة قلبية عند رؤية الغراب، ثم لاحظ صمت الزوج والزوجة، لقد اتجهوا للنافذة لمعرفة سبب التغير المظلم بالخارج، هذا الشعور المقبض والسوداوي، ثم رآهم القط قبل أن يراهم الزوج، ثلاث فتيات، يطفن فوق الزقاق فلا تلامس أقدامهم الأرض، يسرن متجهين لنافذة الزوج وهن يرتدين عباءات طويلة ، بغطاء الرأس يخفي ملامحهم ويلقي الظلال على وجوهم، إحداهن تحمل تفاحة في يدها، نظر لهم الزوج مشدوهًا، وساد صمت مطبق ثم قالت أحد الفتيات، بصوت ساحر، يا لمدى عذوبة ونعومة وخطورة هذا الصوت، كأنه صوت نداهة البحر التي أغوت رجال باخرة السندباد وأغرقوها، قالت الساحرة: بحق تلك الرجفة في يدي، هناك شيء شرير من هذا الطريق.
تراجعت الفتيات الثلاث للخلف حتى ابتلعهم الضباب، وأغلق الزوج النافذة.. “تبًا لكل هذا أنا أتضور جوعًا وبردًا، أريد العودة لمنزلي الدافئ” قالها القط، ثم رأى بعض القطط الضالة، قادمون بتبختر وخيلاء من نهاية الزقاق، روحهم وأعينهم تحملان خبرات مئات المعارك، هرع القط إليهم، ثم وقف وتبادلوا مواء متحفز للحظات، هل سيكون منهم أخيرًا؟ يعطونه الأمان ويرشدونه للطعام؟ بعدما فقد كل شيء في لحظة واحدة.
هنا هوت الصاعقة على قلبه، ارتجف بدنه، لقد استهجنوا بنظراتهم اللا مبالية منه، ولسان حالهم يقول: هذا القط المرفه، يختلف عنا، ولا يعرف للشقاء طريق، إليكم عنه، سيهلك في ليلتان ليس أكثر.
قائد القطط الضالة كان يحمل جرحا غائرا أسفل عينيه، وعين تالفة، ذيل مقطوع، لعل أحد الأطفال قطعه له في تحدي كي يثبت لأبيه أنه قد أصبح رجلا كما يفعل أبناء بعض البشر، رحل قطيع القطط الضالة، هذا ما كانوا حتى ولو لم يكن هذا وصفهم، قطيع، يحمون بعضهم، يتأزرون ضد الكلاب والبشر.
تذكر القط الفتى واجم الوجه، الحائر الذي فقد روحه، وأصبح صامتًا غاضبًا وكئيبًا، كروح شاعر احترقت دواوينه، كقبطان يرى باخرته تغرق أمام عينيه، كزوجة ترى زوجها يرفع يده ليلطمها، أو كعاشق وجد حبيبته بين أحضان العشرات في بيت مجون.
رفع القط رأسه ونظر للسماء، حيث القمر مكتمل.. ثم سار بهدوء للأمام، لمصير غير معلوم، باحثًا عن طعام، عن حياة.. عن مئة نهاية وألف حكاية ينهي بها تلك الليلة الطويلة.