تأثير “جين آير”..
كنت طفلًا بالابتدائية عندما أعطتني والدتي رواية جين آير للمرة الأولى، وهي تحكي لي نبذة تشويقية عن جين، الفتاة التي ستواجه العالم للمرة الأولى بعد طفولتها المنعزلة البعيدة، وانتقالها للقصر الفاخر.
طبعًا يوجد غرفة محرم دخولها بهذا القصر، وهناك صرخات ليلية ماجنة كصوت الضباع تنبع من تلك الغرفة، وتكتشف أن تلك هي زوجة صاحب القصر المجنونة التي تمزق فستان فرحها وتبغي إشعال الحريق في المكان.
الغرفة المغلقة المحرم دخولها، والجنون الذي ينتظر خلفها، قرأت رواية جين آير لتشارلوت برنت في الابتدائية، بالمناسبة هي أخت الروائية إميلي برنت مؤلفة مرتفعات ويثرنج، يمكننا الحديث في وقت آخر عن سحر هؤلاء الأختين وكتابتهن.
في نفس التوقيت أعطتني خالتي رواية ليل لا ينتهي لأغاثا كريستي، وقدم لي خالي الجريمة والعقاب لديستوفسكي، بينما جدتي -رحمها الله- كانت تحكي لي كل حكايات شكسبير قبل أن تعطني مسرحياته، عائلة تحب القراءة بلا ريب، عودة لجين آير ولسوف أحاول أن أتفادى جاذبية الحديث عن ديستويفسكي وأغاثا كريستي وشكسبير في تلك اللحظة، أين كنا ؟ نعم السر خلف الغرفة المغلقة..
قرأت الرواية بقلب راجف، وقررت حينها أني سوف أكتب يومًا ما رواية مستلهمة من هذا العمل. كانت تلك أحلام طفل. وتلك كانت فقرتي المفضلة في اليوم: التخيل ليلًا، تخيل كل التفاصيل والحلم بما يمكن حدوثه. لا تقلقوا، تلك ليست مذكرات شخصية ولا أنوي الاستفاضة في الحديث عن رحلة الكفاح وما شابه، لكني أريد التنويه بأن الحلم مهم. المخيلة مهمة.
هي تتيح لك الفرصة أن تضع نفسك موضع الآخرين، كما قالت الكاتبة جين ويبستر، فتشعر بما يشعرون، وعليه تقدر على الإنسانية واللطف والتهذيب. وأكملًا لما قالته ويبستر: يجب أن ننمي مخيلة الأطفال، فيها شتى أمور الإنسانية.
أما عن الرواية التي استلهمت جزءًا منها من رواية “جين آير”، فيمكنك تخمينها بسهولة، أليس كذلك؟ جرائم الغراب السبع.
يمكن للمرء القول بضمير مستريح إن تلك كانت رواية مجنونة قلبًا وقالبًا، لكن مسألة الغرفة المغلقة والسر خلفها كان عقد اتفاق بيني وبين الطفل إياه بداخلي. نحن ندين بهذا لـ”جين آير”.
أما برونت نفسها فقد استلهمت فكرة السر خلف الغرفة المغلقة من قصة أخرى، وهي “ذو اللحية الزرقاء”.
صاحب القصر الثري وزوجته الجديدة الشابة والجميلة.. ذو اللحية الزرقاء يمتلك مئة غرفة في قصره الفاخر المهيب، ويقول لزوجته: التسع والتسعون غرفة ملكك، لكن إياك ودخول الغرفة المائة.
طبعًا يجن جنون الزوجة، وفضولها يغالبها ويتحول عالمها كله لتلك الغرفة المحرّم دخولها. ثم تستجيب لطبيعتها وفضولها البشري وتفتح الغرفة، فقط لتجد رؤوس زوجات ذو اللحية الزرقاء مرصوصة بشكل دائري، وهناك شموع منيرة تنبثق من تجاويف أعينهن، بينما شفاههن مفغورة على شاكلة صرخة صامتة. تستدير لتجد ذو اللحية الزرقاء واقفًا خلفها والسيف يرتجف في يده قائلًا: كنت أعتقد أنك مختلفة، لكنك مثلهن، فتحت باب الغرفة…
هناك نهاية سعيدة ونجاة للزوجة في القصة، ولكن هذا ليس موضوعنا. لاحظ أن ستيفن كينج وأحمد خالد توفيق ذكرا قصة “اللحية الزرقاء” وسر الغرفة المغلقة مرارًا وتكرارًا في أعمالهما كذلك.
ولَعَمري، تلك هي روعة الفن: الإرث المتناقل من جيل إلى آخر، كشعلة أولمبيات يتناقلها واحد تلو الآخر.
موكب هائل للمجانين وأصحاب الخيال الواسع والأرواح الحالمة هو الفن، والقراءة والكتابة حراس يقظون لهذا الموكب. تأثير “جين آير” يبدو كاسم منمق وجميل، أليس كذلك؟
ماذا عن تأثير “ستيفنسون”؟
ر.ل. ستيفنسون، هذا العبقري الآخر، ربما تعرفه من رواية جزيرة الكنز. وقد تعرفت عليها – الرواية – في الطفولة كذلك عندما قابلت القرصان وبحرنا سويًا بحثًا عن الكنز. لكن دعنا نتحدث لوهلة عن رواية ستيفنسون الأخرى والأكثر روعة…
الرواية التي حلم بها فقام ليكتبها:
الحالة الغريبة للطبيب جيكل والسيد هايد…
دكتور جيكل ومستر هايد.
ج… ه…
هيكل…
د. هيكل…
عودة مرة أخرى إلى رواية جرائم الغراب السبع، أردت تسمية اسم الطبيب هيكل تيمنًا ومزجًا بجيكل وهايد.
تلك الرواية التي عانقت روحي في الإعدادية عندما قرأتها للمرة الأولى.
نحن نتحدث هنا عن حالة – تعددت مرارًا – سبق فيها الفن العلم، فتحدثت الرواية عن فكرة الاثنين داخل واحد، الأنا البديلة…
Alter ego
أو الشخصية الأخرى المظلمة…
فهناك د. جيكل الوديع اللطيف، الذي يبذل قصارى جهده ليتم قبوله في المجتمع البريطاني الفيكتوري المهذب، أو المتظاهر بالتهذيب على الأقل، لأن المجتمع يخفي حياته الليلية الماجنة مثلما سيفعل الطبيب في القصة.
د. جيكل رجل لطيف للغاية، يكبت كل مشاعره…
هو دومًا هادئ،
لا يظهر غضبًا،
لا يظهر حزنًا،
دومًا مبتسم…
مهما حدث.
ويكبت كل شهواته، ويمارس عمله مرتديًا القناع الحضاري اللبق. ثم يخترع مصلًا ويتناوله، ويتحول – جسديًا بشكل مرعب، لا نفسيًا فحسب – إلى الجانب المظلم منه، الجانب المدفون، الجزء القديم البدائي… مستر هايد.
مستر هايد المتوحش، رجل الغاب طويل الناب…
يمرح ليلًا في شوارع لندن بعد منتصف الليل وسط الضباب…
وينشر الرعب والهلع.
مستر هايد يظهر غضبه…
لا يرتدي أقنعة حضارية،
لا يكبت شهواته،
ويستمر الصراع بين الاثنين…
صباحًا ستقابل د. جيكل،
وليلًا ستقابل مستر هايد…
لاحظ بساطة ومعنى الاسم:
Hyde
Hide
الجانب المختبئ بداخل كل منا…
هناك أفلام ومسرحيات ومسلسلات عدة عن هذه النوفيلا، وأفضلها نسخة الثلاثينيات بالأبيض والأسود.
لذا يمكننا القول إن هناك قبلات مرسولة لـجين آير ود. جيكل ومستر هايد في رواية جرائم الغراب السبع.
أما موضوع المسرح ومازن ورنا والشخصيات الأربع داخل عقل الطبيب والصدمات المتتالية في النهاية، فقد واتتني الفكرة عندما تخيلت موضوع “ما الذي سيحدث لو؟” الخاص بالمؤلفين إياهم…
تخيلت أني حاوٍ يقف على خشبة مسرح، وأردت أن أفرقع بيدي لينبثق الدخان، وربما يخرج الأرنب من القبعة، ولكن بدلًا من الأرنب يحلق خفاش، فيصرخ الجمهور هلعًا قبل أن يضحكوا محاولين تهدئة روعهم…
وكانت فرقعة الأصبع تلك جملة “أفيقي يا رنا”.
على أن أتوقف عن الحديث الآن، لأني أكاد أبدو كمؤلف يتغزل في روايته بدلًا من الإطناب بالحديث عن كلاسيكيات الأدب…
أردت فقط أن أقول: الفن الجميل ملهم، والخيال ملهم، والقراءة حياة، و… ماذا؟ هناك أصوات داخل رأسي…
“أفيقي يا رنا”.
أحم، عليّ الذهاب الآن…
اقضوا ليلة سعيدة مع جين آير ود. جيكل…
أنا الآن في ضيافة الغراب، عمتم مساءً.