السواد العظيم
لو تعتقد أني سوف أتحدث عن الوقت الراهن فأنت مخطئ بالتأكيد، نحن لسنا في حقبة سواد عظيم، هي مجرد فترة أخرى للبشرية، فقط الصحف الصفراء قد أضحت صفحات تواصل اجتماعي، والنميمة تحولت إلى جهاز تكنولوجي عملاق.
تلك ليست بفترة سواد عظيم! نحن فقط نحب أن نعتقد هذا لأنه يجعلنا نشعر ببطولة ملحمية ترويها لنا الرثاء الذاتي وهي تجلس فوق كومة من القش المحترق!
لربما تغير الفكر المشترك للناس بعد فترة “ارتدِ الكمامة، واجلس مثل الجميع في البيت، ولا تستقل مواصلات عامة، كُل وجبات سريعة، واستقل أوبر، واعتمد على الهاتف الخلوي في كل شيء”.
لكن تلك ليست بفترة سواد عظيم!
حروب، مجاعات، إبادة، فقر… أليس هذا أمرًا أبديًا منذ بدء الإنسانية؟
كلا يا سادة، نحن لسنا في فترة سواد عظيم.
لا يزال هناك خير، لقد ابتعدنا عن كلمات كهذه:
خير، طيبة، إنسانية، تعاطف…
نشير ضاحكين لمن يتشدق بكلمات كهذه كأنه عاري الجسد، لكن كما علمتنا الفيزياء، هناك دومًا النقيض من كل شيء…
والأمور تشتد حلكة قبل الغسق.
نرشح لك| خالد أمين يكتب: تجربة الدنو من الموت NDE
هناك تلك القصة لـ هـ. ج. ويلز، حكاها أحمد خالد توفيق وستيفن كينج من قبلي، عن وادي العميان… البصير الذي وجد نفسه يحيى وسط الظلام، مع قوم من العميان، في البدء اعتقد أنه سيعيش حياة رغدة، فهو المبصر الوحيد، ثم حاول أن يعلمهم كيف يحيوا مثله، وفي النهاية فقأ عينيه ليكون مثلهم.
الأعور ليس ملكًا في بلد العميان كما كان المثل يقول.
كانت هناك جملة قديمة لأحمد خالد توفيق مفادها: طالما أن الشر متوارٍ ولا يزال يعمل في الخفاء، فنحن بخير، لا تزال اليد العليا للحق.
ستشعر أحيانًا وكأن هناك شيئًا عميقًا يتغير في الأرجاء من حولك بشأن الصواب والخطأ.
كل الأشياء غير المنطقية قد حدثت، لكن دعني أؤكد لك التالي:
ما يحدث، حدث من قبل، ولسوف يحدث ثانية.
القوم يهيجون للصياح بشأن شيء ما، ثم ينسون الأمر برمّته، فيحدث شيء آخر.
فكرة الإدلاء بالرأي للشعور برغبة جنسية خفيفة في التحقق أمام الأنا الخاصة كما قال فرويد…
سيكون عليك أن تقاوم فكرة الإدلاء برأيك، مسألة التعقيب تلك، تذكر تجمّع وتهليل الجموع لمشاهدات حالة إعدام جماعي في بلدة سالم عندما كانوا يحرقون النساء أو يغرقونهن أحياء، أو عندما أفرغوا أحشاء ويليام والاس الاسكتلندي حيًا…
حالة تفريغ الغضب المكتوم بشكل خاطئ تلك…
لكننا لسنا في فترة السواد العظيم. اصبر قليلًا يا أخي، ولسوف أخبرك عن السبب…
هناك حكمة ما قديمة، ستجدها في عدة كتب تحليل نفسي، مستلهمة من قصيدة روبرت فروست الشعرية… الأبيات كالآتي:
أنت تائه في الغابة…
ولكن الأشجار والغصون من حولك ليسوا بتائهين، بل يعرفون موضعهم.
أربط مكانك، فالأشجار والغصون من حولك يعرفون موضعهم.
المغزى جليّ للغاية هنا: أنت لست تائهًا لأنك هنا، والحاضر الحالي يعرف مكانه جيدًا، ولسوف يخبرك أين أنت.
ولأن الفيزياء صارمة وحازمة بشأن وجود النقيض من كل شيء…
فدعني أخبرك بالآتي:
مستنقع السلبيات الذي تحولت إليه مواقع التواصل والتلفاز ليس سوى جزء صغير للغاية من الصورة الكبيرة.
من ينتقد وينظّر ويفعل هذا وذاك، يفعل ذلك لاوعيًا لأنه ببساطة غير راضٍ، غير ممتن، ولا يريد النظر لذاته.
الأعراض الجانبية للأنا، يا صديقي… الكبرياء.
فماذا سيحدث لو تجرد من كل هذا؟ لو عانق المنطق؟
“إن الله لا يحب المستكبرين”
وماذا عن الأعراض الجانبية للنور؟
دعني أحكِ لك شيئًا… بالأمس رأى طفل رضيع قطة، فابتسم في براءة ولوّح لها بيده…
طفل يحيي قطة، بلغة تواصل صامتة، وحب…
لغة خفية لم نتعلمها نحن الكبار بعد!
هل أنت مستعد الآن؟ لتدق الطبول وتزأر الوحوش في الغابة، ليضحك القوم ملء شدقيهم لأني موشك على قولها…
الحب والصدق… تلك أشياء تتحدث بلغة النور.
لقد ابتعدنا كثيرًا عن الصدق مع الذات ومع ما حولنا.
هل يزني المؤمن؟ قد يكون.
هل يسرق المؤمن؟ قد يكون.
هل يكذب المؤمن؟ كلا.
“إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون”
لذا عليك دومًا بالحقيقة، لأن النقيض من الحقيقة أمر لن تتحمله روحك.
هناك قسوة، إذًا هناك رحمة.
هناك عبث، وعليه فهناك منطق… إلخ.
هناك ألم، فلسوف يكون هناك ألم نقيض كذلك يقودك بعيدًا عن الوحل… النقيض من الألم ليس الراحة، النقيض منه هو الشفاء.
لو كنت تعتقد أن أخبار الحروب والمذابح وكل الجرائم تلك، ووحل السلبيات المستفيض في الأرجاء، لن يفسد فطرة ما بداخلك، فأنت مخطئ.
لو كنت تعتقد أن فكرة “هناك أشياء أسوأ تحدث من حولي، فعلى الأقل حالي ليس بهذا السوء”، لن تربي الوحش بداخلك، فأنت أيضًا مخطئ.
لذا لماذا لا نقف قليلًا؟ نحن لسنا في فترة السواد العظيم.
نحن لا تنقصنا عين أو قدم، ولا نرقد على رصيف، ولا نختبئ في بناية تُقصف بالقنابل.
لن نحترق أحياء، ولم نفقد قلوبنا وأرواحنا جراء بشاعات الحياة.
لسنا في بغداد إبان غزو المغول، ولسنا بسليمان الحلبي وهناك خازوق موشك على المرور داخل أجسادنا.
لسنا بأم تموت جوعًا مع رضيعها داخل قرية فتك الطاعون بأهلها.
لو استطعنا فحسب استبدال كل تلك الشكوى بأقل قدر من الامتنان لكل النعم التي نأخذها كأمر مسلم به، مثل مقدرتك على البصر والقراءة في تلك اللحظة مثلًا!
أنت تصبح ما تختاره…
لذا يمكنك اختيار القليل مما هو جيد وغير مؤذٍ كل حين وآخر.
يمكنك الابتعاد عن الخبال.
تذكر جملة محمد علي كلاي: القوم يحيون حياتهم وهم لا يعرفون مقدار السوء الذي يشعرون به لأنهم لم يبذلوا أقل مجهود صوب ما هو جيد.
يمكنك تطبيق هذا على الرياضة، والصحة العقلية، والجسدية، والنفسية… إلخ.
عندما تتعقد الأمور وتتشابك، عُد إلى نقطة البدء.
الوَنس مهم.
المشاركة الحقيقية مهمة.
التكنولوجيا + الوحدة + الكبت (الكذب على الذات) لهي معادلة مروعة للغاية، ضف عليها الأنا، ولسوف نختبئ لحين قدوم إشعار آخر…
كل هذا الخوف، والتوتر، والترقب، والغضب، والتنظير، والكراهية، يعني بالحتْمية وجود أمان، وثبات، وهناء بال، وحكمة، وتفهم، وحب.
ملخص ما أحاول قوله هو الآتي:
لا تكن مثل بطل قصة وادي العميان، لا تفقأ عينيك قبل قدوم الفجر… اصمد.
أنت تائه، لكن الأشجار والغابة من حولك ليسوا كذلك.