الثلاثاء, نوفمبر 26, 2024
Dawen APP
الرئيسيةمقالاتخالد أمين يكتب: مرآة جميلة تُدعى الفن

خالد أمين يكتب: مرآة جميلة تُدعى الفن

دعوني أحدثكم عن كلمتين سحريتين، كلمتين فحسب، غيروا الكثير من الأشياء فيم يخص المجتمعات الأدبية ووعي الشعوب، وتلك الكلمتين هما: جورج بايرن..

اه.. بايرن؛ الرجل الحالم الذي تحدثت عنه قارة بأكملها وتعلم منه كتاب الأدب الكلاسيكي، ليس مما كتبه ولا من أفكاره، بل من روحه الكامنة والثائرة خلف كل مسرحياته وقصائده وقصصه القصيرة.. ما الذي فعله بايرن بالظبط؟

في نفس اليوم الذي كتب فيه دوستويفسكي مقاله عن أثر الكاتب والشاعر جورج بايرن ومصطلح “البارونية” المشتق من اسم الأخير قام فيكتور هوجو بنشر مقال آخر بعنوان “لقد رحل جزء من إنسانيتنا مع وفاة جورج بايرن”. ولازلت أذكر تحليل عبد الرحمن بدوي لجورج بايرن في مقدمة ترجمته لأحد أعماله. الحقيقة ببساطة أن جورج بايرن يعد بنفس أهمية شكسبير بالنسبة لأي كاتب.

للقراءة| 6 أسباب تدفعك لقراءة كتاب “مدينة المليار رأي” لـ محمد عبد الرحمن

بداية معرفتي ببايرن كانت بعد مرور أربعة أعوام على وقوع زلزال عام 1992 وما أعقبه من هرج ومرج وفوضى مرعبة بالنسبة لغلام في الابتدائية، قمت بقراءة ملحمة دون جوان الساخرة لجورج بايرن. أتذكر جيدًا ملابسات قراءتي لهذا الكتاب العظيم، هروبي خلسة من المدرسة لدار المعارف، مطالعتي لمقدمة عبد الرحمن بدوي في ترجمته لكتاب “أسفار شيلد هارود” لبايرن، وحكاية جدتي – رحمها الله – عن أسطورة دون جوان الإسبانية ومعالجة بايرن لها، تلى ذلك بحثي المحموم عن الكتاب في وسط أرفف المكتبة العملاقة، طفل تائه في دار المعارف يبحث عن ملحمة بايرن. وجدت الكتاب أخيرًا وقضيت ليال منبهرًا وعيناي ترتحلان مع رحلة دون جوان الهزلية والفلسفية وتحوله من مغامر أفاق لبطل، مثل لانسيلوت، لسبب ما كنت أتذكر زلزال 92.. كل هؤلاء الذين نفقوا أحياء أسفل الأنقاض، تخيلت دون جوان وهو يحاول إنقاذهم ثم فكرت.. ماذا لو فقد طريقه في الأرض الخراب وسط هؤلاء الذين سقطوا وتحولوا لآكلة لحوم بشر ورجال كهف بعد الزلزال؟ هناك اقتباس من الكتاب يقول: “ليكن نوراً.. قال الله، فكان نورا.. ليكن دماء، قال الإنسان، فكان بحراً من الدماء”.

تخيلت نهر الدماء وأشباه البشر يحاربون دون جوان في تلال الأرض التي لم تعد، النور في مواجهة الظلام، وعندما انتهيت من الكتاب أدركت أن بايرن – من خلال كتاباته – لم يقع في الغرام سوى مرة واحدة لو تناسينا كل شهواته ومغامراته العاطفية، وحبيبته كانت زوجة صديقه الشاعر شيلي، والتي سيعرفها العالم كله باسم ماري شيلي ولو لم تكن تعرف اسم روايتها التي هزت كيان الأدب العالمي فعليك البحث فورًا عن اسم تلك الرواية. على أي حال قمت بالبحث وقرأت عن تلك الليلة في القلعة وسط العاصفة الهوجاء حيثما قضوا ثلاثتهم – بايرن وماري وزوجها – ليلة كاملة يكتبون سويًا.

أعني فكر في الأمر لدقيقة، ثلاثة كتاب اجتمعوا منذ مائتي عام عن طريق الصدفة، تبادلوا مزاح ما إبان تناول العشاء بشأن تحدي إبداعي عن الكتابة، والنتيجة أن العالم كله يدرس كتاباتهم على مدار قرنين من الزمان. اه.. وتلك القلعة الفيكتورية التي احتوتهم. تخيلتها قلعة مهيبة تقبع فوق تلة عالية، والخيال هو سيد الموقف بداخلها، كأنما القلعة هي الجمال النائم والخيال هو الأمير الموشك على تقبيلها لكي تفتح عيناها. وتبتسم.. وفجأه رحل عني الشعور بالأنقباض والخوف، كل تلك الليالي المؤرقة وأنا أتخيل الزلزال القادم، الجدران تنهار وأنا أزحف وسط الأنقاض، ميت حي، والفئران على وشك التهام وجهي. رحلت كل تلك الأفكار، بالأحرى أصبحت داخل تلك القلعة مع جورج بايرن وشيلي. كانت لحظة خافتة بها بصيص من النور أدركت فيها أن الفن يعالج الجروح النفسية، مثلما فعل بايرن عندما أثار ثورة فنية ضد العقلانيون بإنشاء مدرسة الرومانسية والخيال والأدب الحالم في بداية العصر الفيكتوري، والتي ستظهر بها أعمال مثل جين آير وأحدب نوتردام ونساء صغيرات على سبيل المثال. لقد تحدى بايرن عقول الفلاسفة والعقلانيين بفن له قلب نابض، مثلما فعل بيتهوفن عندما تمرد بموسيقاه على باخ وغيره من موسيقيي تلك الحقبة وقدم مقطوعات ومعزوفات تعبر عن رغبات الأنسان ومشاعره. وعندما كتبت مقال “تعبير” في المدرسة بشأن العلاقة بين الأدب الرومانسي وأدب الرعب القوطي بالحقبة الفيكتورية حصلت على تشجيع وتهنئة لن أنساها من معلم اللغة العربية بالفصل. ومنذ لحظتها وكلما خفت من التهام الفئران لوجهي وأنا راقد بعجز وسط أنقاض الزلزال، أذهب وأجلس مع جورج بايرن داخل عقلي في قلعته الجميلة، على يميني تجلس ماري شيلي، تقطب الأخيرة بوجهها نحو النافذة حيث الأمطار القوية والرياح العاصفة، تتمتم ماري بفكرة ما، ثم تكتب وكأنها لا ترانا، كلانا نعرف ماهيه الفكرة التي دارت برأسها حينذاك والرواية الناجمة عنها، اه.. افسح لي يا بايرن، أنا مرهق وأريد الجلوس جوارك.. الفئران تطاردني كما تعلم.

كنت في الصف الخامس الابتدائي عندما هنأني معلم اللغة العربية بشأن المقال، ومنذ حينها وأنا أجلس داخل القلعة مع بايرن وشيلي كلما انتابني خوف من الزلزال، هل تعلمون لماذا؟
لأن الفن – كما قال أوسكار وايلد – هو صانع الأشياء الجميلة..

Khaled Amin
Khaled Amin
خالد أمين: كاتب وروائي مصري مهتم بأدب الرعب والتشويق والجريمة. من مواليد القاهرة عام 1989. يعمل كمحاضر أكاديمي في قطاع الجامعة ومدرب شركات خاصة, اهتم بدراسة الأدب الأمريكي والكتابة السينمائية وأدب الرعب والخيال والجريمة, صدر له رواية "هوس" عام 2012, ورواية "الشبيحة" عام 2013, وسلسلة روايات بعنوان "المجهول إكس" يصدر منها عدة أجزاء سنويًا, كما صدر له رواية "هؤلاء الذين عادوا" عام 2018, ورواية "إنهم يأتون ليلًا" عام 2019, "ليلة ظهور القرين", "زائر منتصف الليل" وتعد رواية "وقريبا سيحل الظلام" هي أحدث أعماله الأدبية.
مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات