أسماء سعد (نقلا عن جريدة الشوق)
محمود عبد الشكور يسخر طاقاته الإبداعية لمقاربة الماضي والحاضر
في روايته «أشباح مرجانة»، يستثمر الكاتب والناقد محمود عبد الشكور طاقاته الإبداعية وأسلوبه الآسر في تجسيد مأزق العقل الإنساني حين يكون ممزقًا بين التمسك بما هو مألوف والمضي نحو المجهول، بين الانجذاب لذكريات الماضي والشعور بالغربة في الحاضر، وبين الارتجاف من الخطر والاحتماء بوهم الطمأنينة، ليقود القارئ نحو نهاية تحمل في طياتها عبق السينما التسعينية ودرامية الحبكات التي تجعل المشاعر محورًا أساسيًا لكل تفصيلة.
الرواية الفائزة بجائزة القلم الذهبي عن فئة المسارات أو الأدب الأكثر تأثيرًا، والصادرة عن دار دوّن للنشر والتوزيع، تأخذنا إلى العام 1992، حيث تتوالى الأحداث عبر بضعة أشهر تُعيد خلالها الشخصيات اكتشاف ذواتها وسط عالم تتحول فيه الأحلام إلى كوابيس، وتتعاقب فيه الإحباطات عبر أجيال ثلاثة، بينما يحاول أبطالٌ منكسرة أرواحهم العثور على ومضة انتصار، أو حتى لحظة مواجهة مع الذات والقدر، مستندين إلى روابط الصداقة كحبل نجاة أخير.
تُقدم الرواية نموذجًا متكاملًا لروايات الأجيال، حيث تتداخل مشاعر التهكم والأسى، الأمل والانكسار، في نسيج سردي نابض بالحياة، يزاوج بين الواقع والأطياف، وبين شخصيات تعيش بين ظلال الماضي وثقل الحاضر. ورغم التشتت الذي ينهش أرواحهم، فإنهم لا يكفون عن المقاومة، بحثًا عن خلاص شخصي، وعن فرصة لإزالة الأنقاض التي راكمتها الهزائم، في محاولة يائسة لاستعادة جذوة الشغف التي خبت عبر الزمن.
يُبدع الكاتب في رسم ملامح اثنتي عشرة شخصية تنتمي إلى أزمنة وتجارب متباينة، إلا أن القاسم المشترك بينها هو التيه الذي يسيطر عليها، ورغبتها المستمرة في انتزاع بصيص أمل، حتى ولو كان مجرد وهم. وبينما يحاصرها الإحباط، تظل كل شخصية منهم تجاهد للبقاء، متشبثة بإرادة الهروب من رماد التجربة نحو احتمالات جديدة، حتى لو كانت غامضة أو بعيدة المنال.
يواصل الكاتب بإتقان صياغة ملامح شخصيات تتباين في خلفياتها وأعمارها، لكنها تشترك جميعها في شعورها العميق بالضياع والتردد. يُظهر بمهارة كيف أن تلك الأرواح المرهقة لا تكف عن المحاولة، وكأنها تُقاوم تيارًا جارفًا من الخيبات، سعيًا للنجاة بأقل الخسائر الممكنة، ولتحطيم الركام المتراكم على ذاكرتها، في محاولة لإحياء جذوة الشغف التي توارت خلف ركام الحياة.
الرواية بمثابة دعوة لالتقاط التفاصيل الدقيقة بين سطور الذاكرة، حيث تختلط لذة التذكر مع مرارة الذكريات المؤلمة. يستدرجنا الكاتب بلغة تشبه الهمس، كأنما يريد للقارئ أن يرى بعينيه ما عاشته شخصياته، فيدرك دون حاجة إلى المزيد من الشرح أو الإيضاح.
إهداء الرواية، وفقًا لما سبق وصرح به المؤلف، إلى «جيل التسعينيات مروّضي الأشباح والكوابيس» يحمل بُعدًا عاطفيًا عميقًا، حيث يعكس امتنان الكاتب لأولئك الذين عاشوا في قلب المجتمع، متماهين مع أوجاعه وأفراحه. لم تكن تجربته مجرد مراقبة من بعيد، بل معايشة حقيقية وسط الشوارع والمقاهي، حيث تنبض الحياة بصخبها وصمتها، وكان وجوده في عمق المدينة، ضائعًا في دهاليزها المظلمة، يمنحه رؤية خاصة ومتفردة لأرواح شخوصه.
تتجلى أجواء الرواية من خلال قصة فؤاد الساعاتي، الذي يعود إلى مسقط رأسه ليتسلم إرثًا غامضًا من جده. وبينما يُفترض أن يكون الميراث فرصة جديدة، يتضح أنه باب إلى عوالم مقلقة. يجد فؤاد نفسه مالكًا لدار عرض صيفية مهجورة، تتراكم في زواياها خيوط العناكب، ويُخبره الحارس العجوز بأن المكان مسكون بشبح يظهر كل ليلة ليعبث بكل شيء، وأن هناك جريمة قتل قديمة دُفنت أسرارها تحت المساحة الممتدة أمام الشاشة.
يجب على فؤاد الآن مواجهة أشباح السينما المتآكلة، وأشباح ماضيه المثقل بالأسرار، وأشباح أخرى أكثر غموضًا لم يكن يتخيل وجودها. عليه أن يعبر المسافة الشائكة بين الحقيقة والوهم، وأن يجد إجابة للسؤال الذي يطارده: «لماذا تتحول أحلامنا إلى كوابيس؟».
بهذا الأسلوب، يمزج الكاتب بين الواقعية والرمزية، ويبقي القارئ في حالة تأهب دائم، يتساءل عن الحدود الفاصلة بين ما هو حقيقي وما هو خيال، وكأن الرواية نفسها تتحول إلى شبح يعبث بأذهاننا، تمامًا كما يفعل الشبح في دار العرض المهجورة.