السبت, أكتوبر 5, 2024
Dawen APP
الرئيسيةمقالاتسمر عبد العظيم تكتب: الآلهة لا ينقشون على الحجر

سمر عبد العظيم تكتب: الآلهة لا ينقشون على الحجر

أما عن هذا اليوم فهو يوم عاشه الكون من قبل، ولكننا لا زلنا نكتشف روافده. هكذا هي الحياة لغز في كل معطياتها، فكيف لا تكون كل يوم فيها رحلة استكشاف؟  

لكل منا رحلته الخاصة التي تستمر حتى تصل إلى أحد الأجلين: إما البصيرة أو الاستسلام لنظريات العبثية. حين نفيق كل صباح فإننا نبحث عن ذلك المعنى. في منظوري أن لكل منا غاية وتكليف في هذه الحياة، جاءت مع شهادة ميلاده ومكتوبة كتكليف إلهي في مكان ما خلف حدود بصيرتنا. ربما كانت رسالة مشفرة تنتظر فك شفرتها، وربما كانت مكتوبة بلغة لا يتحدثها الكثير من البشر.  

أما عن حياتنا فإننا نقضيها إما في فك الشفرة أو تعلم اللغة، ويعزز مسعانا الصبر واليقين أن هناك إجابة أكثر منطقية للسؤال الأزلي، وأن مسعانا لهذا الجواب سيتوج بالنجاح إن نحن فقط عزمنا على أن لا نقبل إلا الجواب الصحيح.

أنظر أحيانًا إلى ما خلفه السوالف بتمعن، وأفهم أحيانًا وأعجز عن الفهم أحيان أخرى. هل كانوا على مثل هذا اليقين؟ اهتم المصريون القدماء بالنقش على الحجر وكأنهم يوثقون حياة لنقرأها نحن. ما الذي اعتقده الآباء، وكيف رأوا عملية التوثيق؟ هل ظنوا أنهم إن لم يوثقوا وجودهم فإن الكون سيتناساهم؟ ترى من أين أتوا بهذا الخوف؟  

من الأمثال التي تحدث بها بتاح حتب “لا تؤدي أعمال الإنسان إلى شيء، وإنما الإرادة الإلهية هي السائرة”، مقولة في طياتها شيء من التسليم، ولكن فيها كذلك رغبة في ترك أثر. هكذا كانت الحياة بالنسبة لهؤلاء لا تعني إلا ما يتركون من أثر. لكن ذلك التصميم بالتأكيد ما جاء من فراغ، من أين أتى؟ هل رأى أجدادنا حضارات قبلهم تندثر فخافوا على منجزهم من الضياع بين شقوق الزمن؟  

لنقف قليلاً بين يدي السؤال ونتأمل حال من سبقونا، فكلما وقفت بين أحضان الحضارة المصرية ارتعبت، ليس خوفًا من لعنات يقولون إنها آتية، ولكن ربما استشعارًا لمشاعرهم هم، والتي قادت كل مساعيهم لتوثيق حياتهم يومًا بيوم وكأنهم يهابون النسيان.  

هذا ما جعل من الحضارة المصرية القديمة حضارة تحفر على الجدران وتنقش لنفسها التاريخ. ترى كيف رأى المصريون القدماء أسلافهم؟ هل عرفوا عنهم الكثير؟ هل وقفوا أمام آثارهم يتساءلون عنهم؟ هل عرفوا أنهم ربما لم يخطوا ماضيهم فاندثروا؟  

علمت أن لا جواب على سؤالي في الروايات الرسمية التي تقر بأن الحضارة الإنسانية كلها عمرها خمسة آلاف سنة فقط، وأن ما كان قبل عصر الأسرات ليس إلا هباءً تاريخيًا منثورًا. الجواب لا يعيش بين صفحات كتب التاريخ الرسمية، ولكنه يحتاج هو ذاته إلى بحث واستقصاء. علمت أن ما قبل الأسرات كانت الحقب التاريخية لها مسميات، وأن منها حقبة عصر الآلهة. ترى لمَ سميت تلك الحقبة بعصر الآلهة، وأي آلهة تلك التي جاءت ورحلت دون أن تترك لنا أثرًا؟ كيف رحلت الآلهة، وكيف يمكن أن لا يتركوا خلفهم سوى أساطير نتهمها باللا موضوعية ونتندر بها دون أن نتخذ منها درسا أو عظة؟

بات جليًا أمامي أن قدماءنا كانوا قلقين على سيرتهم أكثر من أي شيء، وأنهم كانوا على يقين من أن شيئًا لن يبقى منهم إن لم يدونوه، وذلك أنهم وقفوا أمام صروح وجدت من قبلهم بحزنها وقهرها دون أن تحمل اسم أحد أو تروي حكاياتهم. هكذا إذا بدأ منطق التدوين عند القدماء المصريين، خافوا أن يُنسوا كما نسي العالم من عاش قبلهم، نسيهم العالم حتى سمى عصرهم بعصر الآلهة.

في تعريف الخوف أبدع الفلاسفة، ومنهم من أيقن أن الخوف هو أحد مراحل الشجاعة، هي تلك الخطوة بين القلق والمواجهة، تلك هي الخطوة التي يتعرف خلالها الإنسان على مصدر قلقه قبل أن يبدأ المواجهة.

أباؤنا القدامى عرفوا خوفهم ثم واجهوه بالنقش على الحجر في شجاعة وضعت أسماءهم في خلد التاريخ. فلم يصبحوا كسابقيهم من عظماء عصر فقد اسمه رغم امتداد بنائه.

ألا يثير ذلك كله التساؤل والحيرة؟ يسطع ذلك أمامي كناقوس خطر واستهلال سؤال. هل تختفي أعمالنا التي لم ندونها؟ هل نندثر إذا ما انتقلنا إلى عالم آخر؟ ماذا يبقى منا، وهل وُكِلنا بتدوين سيرتنا؟

تقف أهرامات الجيزة، ويقف بين يديها العقل حائرًا، يتحطم على سفحها المنطق والتفسير، ولكنها لا زالت تقف حيث شيدت، تجزم بحضارة جاءت واندثرت وأخذت معها آلاف السنين من الإعجاز. لهذا ربما سميت تلك الفترة “عصر الآلهة”.

إن جل ما يشغلني دائمًا هو الأثر، وتلك الإجابة عن السؤال الأزلي: لماذا جئنا إلى هذا العالم؟ ولكن حين أنظر إلى أهرام الجيزة والتي لم يُدون عليها نقش واحد، أتساءل: هل من الممكن أن يكون البناة هؤلاء قد ذهبوا ولم يتركوا أثرًا؟ أم أن الأثر أمر وتدوينه أمر آخر؟ ثم يباغتني السؤال: هل أبحث في حياتي عن الأثر أم عن تدوين الأثر؟ الكل صاحب أثر، ولكن لن يحكي التاريخ إلا عمن يدون أثره. هل أريد حقًا ترك أثر، أم أنني أبتغي لنفسي مكانًا في حكايات التاريخ؟

أفكر كثيرًا، وحين يجافيني الجواب أتبين أن قلقي على سيرة لم أبنيها بعد لم يتحول إلى خوف يجب أن أواجهه، فأقول لنفسي: “لا بأس حتى وإن لم يذكرك التاريخ… فحتى الآلهة لم ينقشوا على الحجر”.

للقراءة| 6 أسباب لقراءة كتاب “فلسفة البلوك” لـ محمد عبد الرحمن

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات