رواية عابرون للكاتبة سمر عبد العظيم، والصادرة عن دار دوّن للنشر والتوزيع، هي عمل ينتمي إلى الأدب النفسي الاجتماعي المغلف بطبقة من الغموض والجريمة. العمل لا يكتفي بتقديم قصة جريمة تقليدية، بل تغوص في دهاليز النفس البشرية، وتطرح تساؤلات وجودية عن المصير، والاختيار، والقدر، في إطار ذكي ومتماسك.
تدور أحداث الرواية داخل عربة قطار تحمل أربعة غرباء، جمعتهم الصدفة – أو لعلها الأقدار – في ليلة غامضة. هي رحلة قصيرة زمنيًا، لكنها ثرية إنسانيًا ونفسيًا، تأخذنا من المحطات الخارجية إلى المحطات الداخلية لكل شخصية، حيث لا شيء عاديًا، وكل نظرة وكل صمت يحمل ما هو أعمق من الكلمات.
الرواية لا تعتمد على حدث الجريمة كمحور وحيد، بل تتشابك خيوطها بين الوقائع الملموسة والأرواح المتعبة التي تنضح بما فاضت به السنون من خيبات، وأحلام مطموسة، وندوب لم تندمل.
وبين الخيال والواقع، تتبلور شخصية هيام – الأنثى المتمردة على الحياة الرتيبة – التي تبحث عن الحرية لا حبًا في الخروج، بل كرهًا في الانغلاق.
ومن جانب آخر، نجد عمر، الذي اختار أن يحيا بمنطق بارد، طامسًا عاطفته، وكأن القلب لم يعد عضوًا حيًا فيه، بل عبء يجب تجاوزه. أما نور، فهي المفارقة الأكثر شاعرية في النص. وردة مغطاة بالشمع، حُفظت لتظل جميلة، لكنها في الحقيقة فقدت نضارتها منذ زمن بعيد.
شخصية مشحونة بالحزن الذي لا يُقال، وبالدفء الذي يُفتقد. في المقابل، يتجسد آدم في صورة رجل يبدو للوهلة الأولى واثقًا حد الغرور، أنيقًا بصورة لافتة، لكن خلف هذه المظاهر تختبئ ذاكرة مثقلة بالمآسي.
الكاتبة تبدع في رسم الشخصيات الثانوية كذلك، مثل الدكتور منتصر الذي يلعب دورًا محوريًا في تحليل السلوك الإنساني بدقة مهنية وإنسانية معًا، أو الضابط وليد الذي يجمع بين رجاحة العقل وحس العدالة الحي، إضافة إلى شخصيات أخرى كالأم المكلومة، والزوجة الضائعة، والزوج الذي لم يُسمع صوته، والشاب الغامض مهاب، الذي بدا مثيرًا للتساؤلات.
من الناحية الفنية، الحبكة مشوقة، تتصاعد تدريجيًا دون افتعال، ويبدو أن دكتور سمر قد أتقنت توظيف تقنية المرايا النفسية، حيث يعكس كل راكب وجهًا من وجوه الألم الإنساني، وتتجلى قوة النص في القدرة على تحفيز القارئ لطرح أسئلة على ذاته أكثر مما يبحث عن أجوبة من النص.
لغة الرواية فصيحة، أنيقة، مشبعة بالتصوير والرمز، وتبدأ كل وحدة سردية باقتباسات أشبه بقطع خواطر تمهد للحالة المزاجية للنص.
لكن رغم كل ذلك، فإن بعض التفاصيل كانت بحاجة إلى ضبط منطقي أكبر، خصوصًا ما يتعلق بمسار الجريمة؛ فكيف خرج القاتل من مسرح الجريمة دون أن يترك أثرًا واضحًا وسط كل هذا النزيف؟ هذه ثغرة لا يمكن تجاوزها بسهولة في رواية تعتمد على المنطق البوليسي في جانب منها. كذلك، علاقة عزة بـ مهاب جاءت مفهومة ضمن السياق النفسي، لكنها تحتاج إلى تعميق أكثر لفهم التحولات العاطفية التي مرت بها. أما العلاقة بين هيام وعمر فبدت مركبة إلى حدٍ أفقدها المصداقية، إذ طغى الخيال العاطفي على المنطق .
النهاية كانت متماسكة في معظم عناصرها، عدا ما سبق ذكره من ملاحظات، وأعطت الرواية ختامًا مرضيًا إلى حد بعيد. تركت القارئ واقفًا عند رصيف داخلي، يتساءل: هل كنا جميعًا في هذه العربة؟ وهل نحن مجرد “عابرين” في حياة بعضنا، أم أن لكل لقاء مهما قصر، أثر لا يُمحى؟
عابرون ليست فقط رحلة في قطار، بل رحلة في الذات. رواية تمنحك شعورًا أنك تراقب الآخرين، لكنك في الحقيقة كنت تراقب نفسك طوال الوقت ويظل السؤال هل تمت الرحلة أم أن كل ما سبق مجرد خيال؟