الجمعة, أكتوبر 4, 2024
Dawen APP
الرئيسيةمقالاتنوران خالد تكتب: لا نُشفى من نجيب محفوظ.. إلا بالمزيد من نجيب...

نوران خالد تكتب: لا نُشفى من نجيب محفوظ.. إلا بالمزيد من نجيب محفوظ

أظن أن معرفتي باسم نجيب محفوظ بدأ مع بداية وعيي في إدراك أسماء الشخصيات العامة والثقافية. وُلِدت في عام 1991 أي بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل بثلاث سنوات، ولما كنا أسرة “تليفزيونية” كان من الطبيعي أن يمر على أسماء أهم الشخصيات المصرية مبكرًا، ومن بينهم بالتأكيد أديب مصر العالمي.

لكن لقائي بأدب نجيب محفوظ لم يأتِ إلا بعد ذلك بأعوام عندما كنت طالبة في السنة الثالثة بالجامعة. حينها قررت أنه حان الوقت لقراءة كل أعمال نجيب محفوظ بعدما كنت قد أنهيت قراءة أعمال الكثير من الأدباء المصريين وقد ساعدني على ذلك أن مكتبة جامعتي كانت تحوي كل أعماله مما سهّل لي عملية الاستعارة وهو ما كان يناسب مواردي المادية وقتها كطالبة. وهكذا أمضيت الفصل الدراسي الثاني من عامي الجامعي الثالث في قراءة كل أعمال نجيب محفوظ بشكل مكثف متتابع، بدأتها في إجازة منتصف العام بالثلاثية وأنهيتها في أول أسبوع من الإجازة الصيفية بأولاد حارتنا. وبين هذا وذاك، كنت أقضي رحلات الذهاب إلى والإياب من الجامعة في قراءة الروايات والمجموعات القصصية.

للقراءة| أحمد المرسي يكتب: رحلتي مع نجيب محفوظ.. من خبر في التلفزيون إلى هوية 

لا أذكر أنني وقتها تأثرت أو انفعلت كثيرًا بم قرأت. بالطبع أعجبت به وأحببته وبالتأكيد تسلل شيء منه واستقر بداخلي دون أن أشعر كما يحدث مع أي شيء جيد أو متميز يقرأه الإنسان حتى ولو ظن عكس ذلك لمجرد أن ذاكرته لم تستوعبها أو تحتفظ بها بالكامل، أو كما قال نجيب محفوظ نفسه في إحدى لقاءاته بـ “أن الثقافة الحق كالغذاء يتمثله الجسم ويستفيد منه وإن لم يبق له أثر واضح فيه”. وربما بسبب ذلك، قررت بعد أعوام طويلة، تحديدًا في عام 2021، بأن أعيد قراءة أعماله مرة أخرى وشجعني على ذلك أن زوجي – خطيبي في ذلك الوقت – كان قد بدأ يجمع بالتدريج رواياته ومجموعاته القصصية وبالتالي أصبح الكثير منها في متناول يدي.

وكما فعلت أيام الجامعة افتتحت إعادة القراءة بالثلاثية وبدأت بطبيعة الحال بالجزء الأول منها “بين القصرين”.

كيف يمكنني أن أصف الصاعقة التي أصابتني وقتها من هول وعظمة ما تفاجأت به من إبداع في هذه الرواية التي لا أبالغ إن وصفتها بأنها أفضل رواية عربية قرأتها في حياتي؟ إبداع فريد وعبقرية لا مثيل لها في الحكي وبناء التفاصيل ورسم الشخصيات وتشريح المجتمع المصري و تمثيل الصراع بين تقاليد ضخمة ثقيلة وبين الحرية في مختلف أشكالها السياسية والفكرية، وهو بالمناسبة الصراع الرئيسي في الثلاثية كلها كما وصف محفوظ.

أذكر أنني تعلقت وتأثرت بشخصية فهمي تأثرًا شديدًا حتى أنني بكيته بحرقة أثناء قراءة مشاهد النهاية التي كتبها محفوظ بعبقرية جعلت الدموع تجري على وجنتيّ دون أن يضطر لقول الكثير. أغلقت “بين القصرين” وشعرت بفراغ خانق لم ينقذني منه سوى الركض مسرعة لأغرق نفسي في “قصر الشوق” ثم “السكرية” دون أن أعرف كيف كان يمكن أن أواصل حياتي لو لم يكن هناك بقية للحكاية ناهيك عن حكايات أخرى كتبها هذا الرجل أو كُتِبت عنه. هذا هو الوقت الذي وجدتني فيه أضع صورة غلاف “قصر الشوق” على حساب الانستجرام الخاص بي مصحوبًا بتلك الجملة التي اخترعتها ولم أجد أفضل منها لوصف حالتي التي تتلخص في أنه “لا نُشفى من نجيب محفوظ إلا..بالمزيد من نجيب محفوظ”.

بعدها، عرفت وسمعت من بعض المثقفين والكُتاب بأنه لابد من إعادة قراءة أعمال نجيب محفوظ مرة كل بضعة أعوام. فما كتبه هذا الرجل فريد وعابر للأزمان والأمكنة وحتى للمراحل التي يمر بها الإنسان في حياته. وكلما تقدم بك العمر وتطورت بك الخبرات والحوادث، رأيت ما يكتبه بأعين ورؤى جديدة وتعلقتُ بزوايا مختلفة وتفتح جزء جديد من إدراكك لعبقريته. تماماً كما حدث لي وأنا أعيد قراءة “بين القصرين” (وأعيد قراءة كل أعماله) بعدما مرت علي سنوات طويلة حملت الكثير من الأحداث مثل السفر والدراسة وبالطبع الثورة. فهذه الأحداث والخبرات هي التي أحدثت بداخلي الندبة التي نفذ منها “فهمي السيد أحمد عبد الجواد” وزلزل كياني.

ولأن “آفة حارتنا النسيان” فإن إعادة قراءة نجيب محفوظ كل فترة يعد أمرًا ضروريًا لترميم ما يسقط من الذاكرة. إلا أنني لا أعتبر أن النسيان في هذه الحالة “آفة ضارة” أو شر مطلق وذلك لأن نسيان تفاصيل أعمال محفوظ الأدبية يعني تكرار الاستمتاع والانبهار بها في كل مرة تتكرر فيها القراءة. هذه القراءة التي أصبحتُ أقوم بتقسيمها على مدار الأعوام وأجعلها تتخلل جدول قرائتي بشكل متناسب مع بقية الكتب والروايات التي أقرأها. هذا لأنني أظن أن شخصيتي الحالية لم تعد قادرة على التعامل مع ما يمكن أن يصيبني إن قرأت أعمال محفوظ كلها كما فعلت من قبل بشكل مكثف خلال أشهر قليلة تنتهي ثم أجلس لأنتظر مرور الأعوام حتى يحين موعد تكرار القراءة التالي. هذا الخواء المريع يمكن أن يُدخِلني في حلقة مفرغة من التكرارات التي لا يفصل بينها شيء، ذلك لأن الخواء الذي يسببه الانتهاء من قراءة نجيب محفوظ لا يمكن أن يملأه سوى المزيد من نجيب محفوظ، أو على الأقل انتظار الموعد التالي معه.   

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات