نظرة كارتر الأولى
في عام 1922 وبعد أن عثر الإنجليزي هوارد كارتر على مقبرة توت عنخ آمون، بعد شهور طويلة من التنقيب كتب عن لحظة عثوره على كنزه:
“في البداية لم أرِ شيئاً، وتسرب هواء ساخن من الحجرة تسبب في اهتزاز لهب الشمعة، أما الآن عيناي تتكيفان تدريجياً مع الضوء بدأت تفصيلات الحجرة في الداخل تتضح ببطء بين الضباب.. حيوانات غريبة تماثيل ذهب.. في كل مكان رأيت بريق الذهب.. وفي اللحظة الراهنة لا بد أن يكون الخلود قد تجلى أمام الآخرين الذين وقفوا على مقربة من المشهد.. أصابني الذهول بشلل في لساني، وعندما عجز لورد كارنارفون عن تحمل الإثارة أكثر من ذلك سألني في قلق:
هل تستطيع أن ترى شيئاً؟
عجز لساني إلا أن يقول:
نعم، أشياء مذهلة.
وعلى ضوء الشمعة المضطرب رأيت ما لم يره إنسان على امتداد ثلاثة آلاف وخمسمائة عام.. أنه أعظم ما اكتشفه رجال الآثار.. كان يوم الأيام.. أروع أيام حياتي.. ولا أعتقد أني سأراه مرة أخرى!”.
إن شعور كارتر في هذه اللحظة يشبه تمامًا شعور ذلك الكاتب الذي يمسك ورقة وقلم أو يجلس أمام جهاز حاسوب متنقل، ويشرع في كتابة رواية عن التاريخ. إنه يحفر في الرمال، يزيلها، ويكشفها، حتى يرى ذلك الحائط، الحائط الحجري الضخم، ثم الذي يبدأ في ثقبه وئيدًأ وئيدًا، ثم يرى ما لم يره من جاؤوا قبله!
التاريخ الشيخ الكبير
ينعتون دائمًا التاريخ بأنه ممل، فقد ظللت أعوامًا أدرس التاريخ في المدارس والجامعة بصورته المملة تلك، حيث يدرسه لنا أستاذ جامعي رصين بنظارة سميكة، وبذلة واسعة، يحدثنا عن كيفية قضاء محمد علي نظام الالتزام ومعنى نظام الاحتكار، عن مبادئ الثورة الفرنسية الأربعة، عن حكومة الديركتوار، عن بنود معاهدة فرساي المجحفة لدول المحور.. ولكن الحقيقة أن ذلك ليس هو التاريخ. إن هذا فقط ما قالوه عنه، وما ظنوه عنه! يقبع التاريخ الحقيقي في كتب عتيقة كتبت بلغات لم تعد موجودة غريبة على الأسماع، في وثائق مرمية في الأرشيفات القديمة التي لا يلقي أحدهم عليها نظرة، منتظرًا بصبر طويل، فالتاريخ شيخ حكيم، لا يتعجل الأمور، إنه ليس كالحاضر أهوج لاهث، أو كالمستقبل قلق خائف أو متحمس، إنه كهل تعلم كل شيء، ورأى كل شيء، وما عاد هناك شيء يمكن أن يبهره.
لقد رأى التاريخ كل شيء، وعرف كل تلك الأرواح التي عبرت منذ البداية، إن التاريخ كهل حبست في جسده الضعيف المتهالك ملايين الأرواح، حبست في جسده ملايين الحكايات والقصص، حبست فيه ملايين الآلام التي تشبه آلامنا.
في التاريخ قصص مماليك اختطفوا من آبائهم وسط العويل في جبال بعيدة يكسوا قممها الثلوج، هناك صراخ في ساحات المعارك وخيول تركض وسط النيران، هناك بكاء أمام المدافئ وفي المرافئ في انتظار أحباء لا يعودوا، في التاريخ تكايا الدراويش الذين كانوا يرون الله في كل مساء، في التاريخ يجلس العساكر الألبان على عتبات المساجد يعاكسون النساء الجميلات، في التاريخ جثة مشنوقة على باب زويلة، وعاهرة تبكي ألمها في شارع كلوت بك، في التاريخ عبيد عبروا صحراء درب العبيد ليصلوا أخيرًا للقاهرة بداخلهم ألم فراق ذويهم. في التاريخ ألف ألف قصة عن ألم يشبه ألمنا، وألف خوف يشبه خوفنا. لم يتحدث عنه أحد من قبل.
هناك وسط الأوراق المبعثرة وأكوام التراب ينتظر دائمًا الشيخ الكبير أن نذهب إليه، فما أن نصل حتى يبتسم ابتسامة ذات معنى، ابتسامة تكشف ما يدور بداخلنا، ابتسامة تقول: ها قد جئت إذًا، تريد أن تعرف عن نفسك بقصص من سبقوك؟ تريد أن تكتشف ماذا سيحدث لك؟ تريد أن تختبر آلامهم العظيمة لتعرف مقدار ألمك؟ حسنا، سأخبرك، في ذات يوم سيأتي أحدهم ليراك مثلهم. ويفتح الشيخ صندوق الدنيا الذي بحوزته، ويقول لك: انظر!
ووقتها فقط يمكن أن نقرأ كل شيء، ونعرف كل تلك القصص المختفية بين جدران الكنائس القديمة، والمساجد الضخمة، والأهرامات البديعة. سنعرف قصص الشوارع التي نسير فوقها، وتلك الأماكن التي ندخلها. سنسمع ذلك الهمس الذي يأتي من بعيد، بلغات غريبة، قديمة.. ولكننا سندهش بشكل عجيب عندما سنرى أنفسنا هناك في تلك الصور، واقفين من بعيد، بنظرة شاردة خاوية، ننظر مباشرة إلينا!
الإبداع والتاريخ
إذا كنا قد عرفنا التاريخ الآن، وشعرنا به نابضًا حيًا غير جامد، فعلينا أن نعبر عنه، علينا أن لا نتركه، أن نكتبه، أن نكتب عن أنفسنا في أزمان أخرى، في ظروف أكثر غرائبية. وسط عوالم بعيدة. ولكن بأي طريقة؟ إذا تحدثنا عن التاريخ فإننا يمكن أن نكتب عنه بثلاثة طرق، هي: كتب التاريخ، الرواية التاريخية، رواية الخيال التاريخي.
وإذا كنا لا نحتاج إلى أن نتحدث عن كتب التاريخ فهي شارحة لذاتها، فإننا في حاجة إلى توضيح الفارق بين الروايات التاريخية وروايات الخيال التاريخي. تتناول الروايات التاريخية historical novels أحداث ضخمة في التاريخ مؤثرة، تغير الأمم، وتتناول تلك الأحداث بذاتها كمحور للحدث الروائي والحبكة الروائية، يكوّن الحدث الكبير مفاصلها، وتكون الشخصيات التاريخية المعروفة أعمدتها الرئيسية. وللرواية التاريخية تاريخ عظيم طويل، وقد بدأ أغلب الكتاب الكبار كتاباتهم التاريخية في تلك الفئة الأدبية، فعندما يكتب الأستاذ نجيب محفوظ في ثلاثيته التاريخية “عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة”.
في الرواية التاريخية يملأ الكاتب الفراغات ولكنه يلتزم بشكل أساسي بسير الحدث التاريخي الضخم، يصنع الشخصيات، الأحداث التاريخية الكبير المحركة للأحداث. أما عند الحديث عن صنف الخيال التاريخي أو historical fiction novel فإننا هنا نتحدث عن نوع مختلف عن النوع الأول، فنحن هنا لا نهتم بالملوك والوزراء وبتلك الأحداث الضخمة المؤثر، فرغم وجودها إلا أننا لا نراها إلا على هامش الرواية، أو باعتبارها خلفية للوحة مليئة بالتفاصيل الكبيرة الكثيرة، التاريخ حاضر هنا كحيز مكاني لا أكثر ولا أقل. بينما تمرح الشخصيات في رحاب هذا الحيز بشكل أكثر حرية. ليست مجبرة على سير الحدث التاريخي رغم أنها لا تستطيع أن تخرج عنه.
تهتم روايات الخيال التاريخي بالفئات المهمشة على طريقة ميشيل فوكو، وتأثير السلطة عليها، والقوى الكبرى، وانعكاسها.
وللخيال التاريخي امتداد قديم وعتيق فرواية كالحرب والسلام لا تعتبر رواية تاريخية ولكنها تعتبر رواية خيال تاريخي، كما أن أعمال فيكتور هوجو مثل “الكونت دي مونت كريستو” هو عمل خيالي تاريخي، وأيضًا “البؤساء”.
ننتقل بعد ذلك إلى نقطة التالية وهي كيف نتعامل مع التاريخ في العمل الإبداعي، سواء كان ذلك رواية تاريخية أو رواية خيال تاريخي.
الرب في التفاصيل
تنسب جملة شهيرة إلى المهندس المعماري الألماني لودفينغ ميس فان دير وهي: الشيطان يكمن في التفاصيل The devil is in the detail وهي جملة تشير إلى أنه يجب البحث في تفاصيل الأشياء لأنها هي ما تحتوي دائمًا على الحل. ولكن الحقيقة أن تلك الجملة خاطئة، فما قاله فان دير كان شيئَا آخر، فقد نالت العبارة الحالية الكثير من التحريف والتغيير عبر الزمن وعن طريق تداول العامة. فالجملة الأصلية التي قالها فان دير كانت (الرب يكمن في التفصيل). ونلاحظ هنا استبدال كلمة الرب بالشيطان، وكذلك كلمة التفصيل بالتفاصيل. ونعرف من كلمة التفصيل هنا ما قصده فان دير من البداية.
إن الروائي في تعامله مع التاريخ يجب أن يهتم بالتفصيل والتفاصيل على حد سواء، فإنه مثل المعماري الذي يقيم بناء كامل، ولكنه بناء من خيال، ولا يمكن أن يقنع قارئه بذلك الخيال، وبأنه قد قام بذلك البناء بالفعل إلا من خلال ذكر تفاصيله، وكأنه يراها، فتلك الثقة التي سيتحدث بها الكاتب ستنتقل للقاريء مباشرة. فإذا كان الكاتب لا يرى ما يتحدث عنه فإن القارئ لن يراه.
يقول الكاتب الإيطالي الشهير إمبرتو إيكو عندما فكر في كتابة الرواية -وهو الأستاذ الجامعي المتخصص في تاريخ القرون الوسطى- قرر أن يكتب رواية عن عملية قتل تجري في دير للرهبان، ثم سأل نفسه عن ذلك الدير وكيف سيكون، وقام برسم خريطة للدير مما احتفظت به المراجع عن تكوين الأديرة في القرون الوسطى بحجراته، وأصبح لديه تلك الخريطة الكاملة، ليتحرك فيها بحرية وثقة كاملة، فعندما سيتحدث عن باب مغلق فإنه سيراه بالفعل.
فخرجت لنا رواية عظيمة كـ (اسم الوردة)، وعندما كتب (جزيرة اليوم السابق) عن غريق يكون الناجي الوحيد من كارثة بحرية في عصر النهضة، ذهب لمدة شهور إلى البحر، واستلقى تحت الشمس فوق الماء لساعات من أجل أن يشعر باحتراق جلده ودخول الملح إلى مسامه. ثم قام بدراسة تكوين السفن في تلك الفترة بشكل كامل، وقام برسم مخطط للسفينة كاملة كمهندس!
التاريخ كعمل إبداعي عمل مرهق وصعب، وفي تلك المقالات سنتحدث عن التعامل بشكل إبداعي مع التاريخ، كيف نأخذ بيد القارئ إلى عوالمنا المجهولة والتي سبق أن أطلعنا عليها شيخ التاريخ الحكيم الصبور. أن نريهم كنوزنا، نريهم أنفسنا وأنفسهم في الماضي.. كيف نتفادى الأخطاء في الكتابة، كيف نتجنب الغرق في التفاصيل، وكيف نجعله يرى ما نراه.. إلى لقاء قريب.