الأربعاء, نوفمبر 20, 2024
Dawen APP
الرئيسيةمقالاتخالد أمين يكتب: أنا وناردين ما يفعله الفن بصحتنا النفسية

خالد أمين يكتب: أنا وناردين ما يفعله الفن بصحتنا النفسية

اليوم كنت أسير رويدًا بالشارع، شارد الذهن، البنايات الصغيرة تتراص من حولي ونوافذها تبدو كعيونٍ مغلقة تخفي مئات الأسرار، كل حيٍن وآخر ينفتح أحد تجاويفها وتنظر لك إحداهن فتهز رأسك وتواصل السير وأنت مطأطأ الرأس، الشارع كان واسعًا وخاليًا، شعرت وكأني أقف بزقاق كبير لا متناهي، به أمواج دوامة أبدية، فجأة وضعت السماعات بأذني واستمعت للموسيقى التي كتبت عليها رواية “إنهم يأتون ليلًا”.

 شهقت وأغمضت عيناي والزمن يعود بي لمدة خمسة أعوام، عندما دخلت ناردين الصباغ حياتي للمرة الأولى، تلك المجنونة المشاغبة، أتذكر في إحدى محادثاتي الليلية مع ناردين، قلت لها بشرود: لكنه عالم مخبول للغاية.
 

هزت كتفيها بتململ وأجابتني: عالم ممل، الكل يحاول إرضاء غروره وشهواته، رجال مسيطرون ونساء مخادعة، سرقة وزيف وإدعاء، المال هو ما يرتجف له الجميع رهبة واحترام، يبتعون لذاتهم ومحاولاتهم لإرضاء الأنا بجنون، ليس الجميع بالطبع، لكني أرى مللًا في كل هذا، لا يوجد غموض، أو مغامرة.. لا يوجد شيء مثير حقًا.

ناردين أنت تتحدثين عن مسوخ أسفل الفراش وأصوات تهمس ليلًا وجرائم قتل بشعة متسلسلة لا تفسير لها، لديك تعريفك الخاص عن الغموض والإثارة.
اصمت دقيقة… فقط كف عن الكلام.

نظرت إليها مندهشًا، فلوحت بيدها قبل أن تقول: أنت أحمق.. أحمق. رفعت حاجبي بدهشة ولم أعرف هل أبتسم من الإهانة أم لا قبل أن أقول: آه هه… من اللطيف دومًا أن تدعوني شخصيتي المفضلة بالأحمق.

ترفع ناردين رأسها بشمم قبل أن تقول: رودينا هي شخصيتك المفضلة، لا تكن مخادعًا، وهذا لن يهم فأنت لست المفضل إليّ.

“أنا واقع في غرام رودينا”.. قلتها بهيام وأنا أتذكر شعر ممثلة المسرح القصير قبل أن أنتفض إزاء تعبير وجه ناردين القانط كناظرة مدرسة بتلك اللحظة وتنحنحت قائلًا:

كنت على وشك توبيخي بشيءٍ ما.

نعم، ما قلته بشأن المسوخ والمقابر والظلام، طبعًا هناك سحر ومغامرة وخيال بتلك الأشياء، الخوف يطهرنا من الداخل، أغمض عينيك وارقص بتناغم على أصداء موسيقى تشايكوفسكي، هل تشعر بها؟.. باخرة تبحر وقت الغروب.. متحف قديم تتراقص به الظلال على أوجه اللوحات.. دار أوبرا ومكتبة عتيقة تسير بين دهاليز كتبها، لترى عناوين مثل “العجوز والبحر” و”غادة الكاميليا” و”ملك الذباب” جوارك وأسماء مثل المتنبي وسقراط وابن خلدون، ثم تقف بإجلال أمام قسم المسرح وترتجف أمام مسرحية موت تاجر رجل مبيعات وحلم ليلة صيف.. الغموض يا صديقي، الرعب، شعور بأن شيء ما في المرآة ينظر لك بالمقابل، مصاص دماء يحفر طريقه من تابوت ما، وبيت غول قديم به عظام بشرية، وكوخ ساحرة بغابة مهجورة لهو أفضل وأجمل بكثير من ترهات واقعك.

ابتسمت لها قائلًا: وفتاة ذات شعر أسود طويل تسير مولية لها ظهرها، ترتدي فستان أبيض متموج إثر رياح الشاطيء وأصابع قدميها الحافيتين تختلط برمال البحر.

آه يا للرجال.. اصمت.. فقط اصمت ودع فتياتك لحالهن.

كدت أن أقول لها أنها واحدة منهن لكني عدلت عن ذلك لأنها -ببساطة- ليست واحدة منهن.. هي ناردين الصباغ بعد كل شيء.

فجأة أمعنت بي النظر كأني أحمق وقد اعتدت ارتكاب الخرقات وهي تحاول اكتشاف أي حماقة قد قمت بها تلك المرة، قبل أن تسألني بتوجس: ما بك؟

حائر قليلًا، سئمت ترهات البشر والواقع.
ساد الصمت لبرهة، الحقيقة أن مشاهدة تعابير وتقاسيم وجه ناردين وهي تتبدل واحدة تلو الأخرى لهو أمر أشبه بمشاهدة ظاهرة طبيعية ساحرة، لقد قطبت جبينها، ثم زامت بفمها مفكرة وهي تنظر لأعلى، قبل أن تعاود النظر ويرتسم الفهم على ملامحها، وأعقب ذلك ابتسامة مفاجأة.

لكنك تجيد التملص منه.

من؟

الواقع يا أخي، كروائي يكتب عن المحققين العباقرة الذي يميطون لثام غموض لا مثيل ليكتشفوا نهاية صادمة تقشعر لها الأبدان فأنت حقًا لا تمتلك سرعة بديهة.

أنا مقدر جدًا لدعمك اللطيف اليوم.

تخلى عن حسك الساخر هذا، لقد ورثت جزء لا بأس به منك، أنت حائر، حسنًا، أنت لم تواجه الشيء والروطاش وجادو، لم تنتصر عليهم، أنا من فعل هذا، وهل تعلم شيء… في البدء كنت لوحدي تمامًا، ثم فجأة أتى صلاح، رفيق الكفاح دائمًا وأبدًا، وهل تعلم شيء؟ بعد ذلك أصبح هناك أصدقاء آخرين، ربما ليسوا مقربين، لكني أعلم دومًا أنهم بالأرجاء، ليس في حالة لو احتجت عونًا في نقل أثاث منزلي، ولكن عندما حقًا.. حقًا أحتاجهم.. هذا الغريب الذي يحيى بين الأنفاق وممثلة المسرح القادرة على قراءة الأفكار والتي تهيم أنت بها حبًا، و…

صمتت ناردين قليلًا ثم أضافت بصوتٍ غامض وهي تحدق بي كأنها مشاهد يحاول تبين الخدعة التي يخفيها ساحر المسرح بجعبته، ثم أردفت: وسليم.. تنهدت ولم أعلق.. فقالت هي وقد عادت لتململها: يا إلهي، انظر لتعبير وجهك هذا.

شكسبير قال إن الجحيم شاغر وكل الشياطين هنا.

لقد قال أيضًا إن الدنيا كلها ليست سوى مسرح كبير ونحن ممثلون به، الطريقة الفعالة الوحيدة التي أعرفها للحصول على السلام النفسي هو الفن، هل تعلم لماذا؟ نحن بحاجة ونبحث دومًا- عن أحد يفهمنا ونفهمه ليتولد هذا السحر الخاص بيننا، نحن ضد العالم، وهذا لن يحدث لأن الواقع متأهب دومًا ككلب حراسة شرس ولسوف يفتك بأي محاولة بين بشر لتحقيق هذا، وعليه فإن الحل بسيط للغاية، البديل أمامنا.. هو الفن.. نحن نقرأ لأننا نحن تلك الشخصيات، لأنهم حقيقيون، ونشعر بشتى الأشياء معهم، كف عن حيرتك تلك، أيها الأخرق، كف عنها وكف عن تقاعسك، اذهب وافعل الشيء الذي تجيده بشدة، كلا، لا تذهب وتعدو مستمتعًا لموسيقى الثمانينات، اذهب واكتب.. فقط اذهب واكتب.. كما أنني مفتقدة لصديق طفولتي المقرب وأريد رؤيته مجددًا..

تراجعت للخلف مبغوتًا، قبل أن أقول بتردد: ناردين.. مسألة كارم العدوي تلك، وهروبه من الملجأ بعد اختفاء خاله من القصر، وانضمامه للسيرك ليقابلك هناك ويحدث ذلك الكابوس الشنيع، هل تريدين حقًا لي أن أكتب عن تلك الذكريات؟ هل تسمحين لي حقًا أن أكتب عما حدث؟ أن ذكرياتك في السيرك لهي الأكثر غموضًا ورعبًا على الإطلاق.. ناردين.. هل أنت متأكدة؟

أخذت ناردين نفسًا عميقًا قبل أن تقول: نعم، لقد حان وقت لقاء كارم العدوي.

أومأت لها برأسي مبتسمًا، وقد شعرت بحيرتي تقل، كدور برد يترنح في حيرة ويسعل بعد تناولك لعدد من الليمون وقيامك بتدفئة نفسك جيدًا.
وكررت ناردين: حان وقت لقاء كارم.

 ثم أخذت الفتاة نفسًا عميقًا وتابعت بتعجل: عليّ العودة لفان هيلسنج في قصر سليمان الآن والخروج من قصر ذكرياتك، وداعًا.
ابتسمت لها بجانب وجهي متمتًما: إلى لقاءٍ قريب يا ناردين.

Khaled Amin
Khaled Amin
خالد أمين: كاتب وروائي مصري مهتم بأدب الرعب والتشويق والجريمة. من مواليد القاهرة عام 1989. يعمل كمحاضر أكاديمي في قطاع الجامعة ومدرب شركات خاصة, اهتم بدراسة الأدب الأمريكي والكتابة السينمائية وأدب الرعب والخيال والجريمة, صدر له رواية "هوس" عام 2012, ورواية "الشبيحة" عام 2013, وسلسلة روايات بعنوان "المجهول إكس" يصدر منها عدة أجزاء سنويًا, كما صدر له رواية "هؤلاء الذين عادوا" عام 2018, ورواية "إنهم يأتون ليلًا" عام 2019, "ليلة ظهور القرين", "زائر منتصف الليل" وتعد رواية "وقريبا سيحل الظلام" هي أحدث أعماله الأدبية.
مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات