اسمه هيكل، طبيب نفسي.
يمتلك وسائل رائعة لمساعدتك.
هناك مسرح داخل عقله، وبداخله أناس يساعدون د. هيكل في علاج مرضاه.
هل الجميع متواجدون؟ لنربط الأحزمة ونأخذ أنفاسنا… هناك جلسة جديدة موشكة على الحدوث في غرفة الطبيب النفسي.
رفعت عبير رأسها ببطء في اللحظة التي قال فيها كاليجاري:
– هناك قضية جديدة…
بدا كأنهم جميعًا يفيقون من سبات عميق. ربما لو رآهم أحد قبل هتاف كاليجاري لظن أنهم تماثيل جامدة على خشبة مسرح تماثيله من الدمى، لكن الرجل في زي المهرج، وطلاء وجهه المميز، هتف مجددًا:
– هناك قضية جديدة!
ومن الظلال خلفه، خرج رجل نحيف ذو شارب قصير وبذلة كلاسيكية. عدّل الرجل وضع قبعته والتقط عصاه، فالتفت المهرج إليه مرددًا بنفس الحماس، وهو يضحك:
– هل أنت مستعد يا تشابلن؟
هزّ تشابلن رأسه، وسرعان ما انضمت إليه امرأة في الأربعينيات ترتدي فستانًا مصممًا وكأنه من القرون الوسطى. كانت تنظر في مرآتها وتردد:
– يا مرآتي… يا مرآتي… من هي الأجمل على الإطلاق؟
– كفّي عن هذا يا ساحرة الشمال والجنوب، يا جميلة الجميلات! هناك قضية جديدة. أحضري لنا البلورة السحرية يا آرابيلا.
كان آزورد، مرتديًا ملابس المماليك وهناك سيف عربي متدلٍ من غمده، يجلس جوار عبير. تبادلا النظرات ثم قالا في نفس الوقت:
– آرابيلا، أعطنا البلورة. نريد أن نرى…
هزت آرابيلا رأسها نفيًا وهي تتأمل نفسها في المرآة. فالتف الأربعة من حولها.
– لن أعطيكم شيئًا قبل أن ترقصوا لي.
ومن الركن البعيد المغطى بالكامل بالظلال وشباك العناكب، أتاهم صوت ساخر:
– يا شاويش… يا بوليس… ارقصوا لآرابيلا!
استدارت عبير حيثما يجلس إسماعيل ياسين وابتسمت له، ثم عادت لتنظر لآرابيلا قبل أن تهز كتفيها وتقول:
– حسنًا…
وبدأت ترقص، بعدما فردت ذراعيها برداء راقصات الباليه الذي ترتديه، وبدأت تتموج وهي مغمضة العينين، تتحرك بانسيابية مع الظلال، وهي تشد من مشط قدميها.
حسنًا، ربما يجب أن أصف لكم الأمر جيدًا. تلك راقصة باليه تؤدي رقصتها بينما المهرج يتمايل ضاحكًا، وتشابلن يدق الأرض بعصاه، بينما الفارس المملوكي يجلس ناظرًا إليهم.
وفي المنتصف تقف ساحرة بوجه شامخ وكبرياء، تنتظرهم حتى ينتهوا من فقرتهم المسرحية.
وفور أن انتهوا، هزت رأسها في رضا، وحركت ساعدها من خلف ظهرها لتريهم البلورة.
جلسوا في دائرة متربعين، ينظرون بحماس…
إلى البلورة السحرية.
ومن خلالها، رأوا الآتي:
رأوا سيدة في الثلاثينيات تجلس فوق الأريكة في غرفة د. هيكل. لم يروا الأخير، فقط لمحوا كتفه وهو جالس قبالة السيدة.
كانت ترتدي فستانًا قرمزيًا، وقد عقصت شعرها الأسود خلف عنقها، ومدت يدها فوق معدتها البارزة وقالت بهدوء:
– لقد قالوا لي إن موعد الولادة قد يحين في أي وقت الآن…
ثم تنهدت مضيفة:
– أحيانًا أشعر به يتحرك بداخلي. يا له من شعور… أن يوجد كائن حي بداخلك. حيوات عدة داخل نفس الجسد. يعتقد الجميع أن كون المرأة حبلى وتلد لهو أمر معتاد ومسلم به، لكن صدقني يا د. هيكل، هو حقًا أمر ساحر ومروع ومرعب. لا أصدق بعد أني سأكون أمًا… يا له من شعور…
هز كاليجاري رأسه محنقًا وهتف:
– ما هذا الهراء؟ تلك مجرد جلسة نفسية مع سيدة حامل تعاني من القلق. أين الغموض والتشويق؟ ما الذي يفعله بنا هذا الرجل؟ هذا المعتوه؟
وافقه تشابلن بهزة رأس وقورة، وقالت عبير بتردد:
– لنُعطه فرصة، ربما يكون هناك شيء ما بخصوص السيدة…
هز كاليجاري رأسه وهتف بحدة:
– هذا أمر ممل للغاية. لقد أصبح الوغد يمارس جلسات علاج وتوعية الأسرة الآن… تبًا له!
– لننتظر يا كاليجاري. لعل هناك جثة في الأمر.
قالتها آرابيلا، وعادوا لمتابعة الجلسة.
للقراءة| خالد أمين يكتب القصة القصيرة: “مارم”.. ضمن سلسلة “والآن.. يمكنك الصراخ”
غمغم آزورد:
– لماذا لا نستطيع رؤية وجهه؟ أُلمح كتفه فقط…
– هذا لأننا داخل عقله يا فارس طومان باي.
– ليس هذا ما أعنيه بل…
– هشش…
– لنتابع الجلسة.
أردفت السيدة:
– كما قلت لك في البداية، اسمي نرمين، وأنا خائفة… خائفة يا د. هيكل… ساعدني يا دكتور أرجوك…
ارتجف صوتها ودمعت عيناها وهي تردف:
– لا أتحدث عن آلام الوضع أو مسألة من سيعتني بي أو بالرضيع. أنا خائفة من…
قطعت حديثها بغتة، وشردت عيناها السوداوان وكأنها تتذكر أمرًا مريعًا، ثم أردفت:
– أنا خائفة من الشر في هذا العالم…
– يا إلهي، سيتحول لمصلح اجتماعي وواعظ الآن!
– صبرًا يا كاليجاري، صبرًا…
أردفت نرمين:
– ربما تعتقد أني مجرد فتاة هشة تتابع الأخبار المرعبة وتخاف على ابنها الذي لم تلده بعد، لكن هذا ليس حقيقيًا. أنا خائفة منه هو… هو قادم من أجلي… أشعر بهذا. زوجي لا يصدقني، لا أحد يصدقني. كل شيء بدأ عندما سمعت عنه. أنت تعرف عمن أتحدث. هذا الرجل الذي تتحدث عنه الصحف.
وأرتجفت وهي تضيف:
– اسمه آدم.
عندما نطقت باسم “آدم”، هتف إسماعيل ياسين في مرح:
– ها نحن ذا، وصلنا للعقدة الدرامية!
وأضاف كاليجاري متحمسًا:
– وأخيرًا شيء مثير للاهتمام!
هز آزورد رأسه ببطء قائلاً:
– آدم… اسم عادي للغاية. لكن لننتظر ونرى.
تابعوا ما ظهر على البلورة، بينما نرمين واصلت حديثها:
– هناك شيء غريب بخصوصه. يتحدث الجميع عنه وكأنه مجرد شخص، لكنه ليس كذلك. هذا الرجل يتلاعب بعقول البشر. يغيرهم. يحولهم لشيء آخر. أراه في كوابيسي، وهو قادم ليقتلني.
انفجرت بالبكاء، فأومأ د. هيكل برأسه قائلاً:
– إذن، دعينا نتحدث أكثر عن آدم. متى بدأت رؤيته؟
ردت:
– منذ ثلاثة أشهر، عندما قتل جارنا. كانت جريمة مروعة. لا أريد التحدث عنها الآن، لكني كنت أعلم أن آدم متورط. أعلم هذا.
هدأها بصوت رخيم وقال:
– لا بأس. يمكننا التحدث لاحقًا عن هذا الموضوع إذا شعرتِ بالراحة.
داخل عقل هيكل، صمت الحاضرون للحظات، حتى همس تشابلن:
– هذا مثير للاهتمام.
قالت عبير:
– ما رأيكم أن نحاول الوصول إلى عقل هذه السيدة؟ ربما نعرف المزيد عن آدم.
هز كاليجاري رأسه بحماس وقال:
– فلنفعل!
بدأوا في التركيز على البلورة، في محاولة لاستكشاف عقل نرمين، لكن فجأة أظلمت البلورة تمامًا.
صاح إسماعيل:
– ماذا حدث؟!
ردت آرابيلا:
– هناك قوة تعوقنا. هذا ليس طبيعيًا.
عادوا للغرفة، حيث جلس الجميع في صمت بعد أن أظلمت البلورة. هز آزورد رأسه قائلاً:
– هذا ليس د. هيكل.
هتف آزورد وهو يتراجع للخلف.
وتراجع تشابلن أيضًا ليختفي بوجهه بين الظلال، بينما مطّت آرابيلا شفتيها، عائدة لتحدق في المرآة الصغيرة بيدها، وتمتمت:
– لولا سلامك سبق كلامك، لأكلت لحمك قبل عظامك.
أما كاليجاري فقد هز كتفيه وقال باستهزاء:
– تلك الجلسة لم تكن لنا ولا تخصنا. لقد جعلها تقتل زوجها وتضع رأسه داخل فستانها وهي مقتنعة بأنها حبلى، فقط لأنه كان يمتلك فضولًا أراد به أن يرى إن كانت ستفعل هذا حقًا أم لا.
نظرت عبير للبلورة السحرية. ظهر الرجل يخرج من الغرفة، ولم يكن يبدو عليه شيء سوى الهدوء، فقط سمعت صوته يدندن لحنًا غير واضح. وبعد مرور دقائق، دخل د. هيكل الغرفة، بهيئته المعهودة؛ قامته متوسطة الطول، وفوديه الأشيبين. رأته عبير يتلفت حوله، ثم جلس على مكتبه كأن شيئًا لم يكن.
أظلمت الشاشة…
وفي مكان آخر بعيد، بينما السحب تتكاثف حول القمر المكتمل، شعرت رودينا بنسيم هواء بارد يسري في بدنها وهي تقف في الزقاق الخالي.
– رودينا…
التفتت خلفها، فرأته قادمًا من نهاية الزقاق. ظل يسير ببطء حتى أصبح على مقربة منها.
أخذت رودينا نفسًا عميقًا. لن تقرأ أفكاره، ستظل صامتة حتى يتحدث. هي تعرف جيدًا ما الذي سيقوله، ورغمًا عنها، شعرت بدقات قلبها تتسارع. أخذت نفسًا آخر عندما سمعته يقول:
– هناك أشياء بشعة تحدث في هذا المكان. تلك الفتاة، رنا، لقد تحدثت مع صلاح وناردين عن هذا الطبيب وما يحدث في مبناه، وعن الحوادث التي تقع مؤخرًا.
كانت رودينا تنظر إليه بصمت. الرجل الذي عض التراب، أم تناديه باسمه؟ “حاتم”. ستقرر عندما ينتهي من الحديث.
وأردف هو:
– لقد حان الوقت.
هزت رودينا رأسها وغمغمت:
– نعم… لقد حان الوقت.