همست ناردين الصباغ لـ فان هيلسنج بصوت كالفحيح، بعدما انطفئت كل الشموع داخل قصر سليمان وهم جالسون قبالة الميت الحي على طرف المائدة الطويلة: امسك يدي بسرعة..
فهم فان هيلسنج ما تريده الفتاة فورًا، لم يقض عمره كخبير ماورائيات كي لا يفهم أن الأرواح المظلمة تأتي في العتمة محاولة الاستحواذ على أجسادهم والتفرقة بينهما، وهكذا مد يده وشبكها بيدها الصغيرة.
أردفت ناردين: قصر سليمان ولد شريرًا، طاقته مظلمة، وهو يستدعي ويجذب بتلك الطاقة قوى الشر الخارجية، بكل أنواعها.
-ناردين لقد قابلنا دراكولا ومستذئب وميت حي للحظتنا تلك
-نحن في بداية السهرة فحسب..لا تتعجل، وقلت لك أن تمسك بيدي
-أنا أمسكها بالفعل
ابتلعت ناردين ريقها ثم همست وهي تشعر بالديجافو: آه كلا، أنت لا تمسك بيدي، يد من تمسك بالظبط يا فان هلسنج؟ ساد الصمت الثقيل والذي تخللته مئات الإجابات المختلفة.. وبيد مرتجفه أخرجت ناردين قداحتها الذهبية وأشعلتها، ثم حركت ضوء اللهب الخافت المبدد للظلام لترى من الذي يقف بجوار فان هلسنج ويمسك يده. يتراقص ضوء اللهب وسط الظلام، تتحرك يدها ببطء..
لهب القداحة..
الظلام..
ثم رأته.. فجأة دون سابق إنذار.. وجه أبيض تعتليه صرخة صامتة، حدقتي عينين متسعتين، أنف معقوف، جلد أبيض مشدود ، جسد منحني شديد النحافة، والتفصيله الأخيرة أنه كان بلا فم، كأن ذئب قد حاول تقبيله، هذا الرجل أو المسخ أمامها يمتلك تجويف دموي بدلًا من الفم، وصرخة صامتة لا نهائية تعتلي وجهه. تلاقت أعينهم لثوان، ورأت ناردين عدة ديدان تخرج من تجويف الأعين، هنا صرخت الكاتبة وخبيرة الماورائيات، صرخت بلا توقف.
أما فان هلسنج فلقد تراجع للخلف ودفع المسخ بعيدًا، ومد يده في جيب معطفه بسرعة وأخرج سكين معدني محنى على شاكلة خطاف، غرز فان هيلسنج الخطاف في رأس المسخ ولم يتنظر النتيجة بل دفع ناردين وهرول الاثنان مبتعدين.. يجرون بين دهاليز قصر سليمان المظلمة.
يجري هلسنج
تعدو ناردين
يلهث كلاهما، يكاد أحدهما يسقط فيلتقطه الآخر
أصوات همس ماجنة وضحكات خافتة تلاحقهم
ظلال تتحرك من خلف الستائر
يسقط الاثنان خلف تابوت طويل في الركن الأيسر، يشعران بمئات الأرواح الشريرة والمسوخ تطاردهم، يتبادل الاثنان نظرة طويلة قبل أن يدخلا التابوت سويًا، الأصوات تقترب.. تلمح ناردين المسخ ذو الوجه الأبيض وهو يعدو نحوهما، أين ذهبت جثة الميت الحي؟ لقد انقطع حديثه، لكن هذا لا يهم الآن، لا يهم.
يصرخ كلاهما وهما يحاولان غلق التابوت بينما مسوخ قصر سليمان تكاد تصل إليهما، يئن فان هلسنج محاولًا إغلاق الغطاء المعدني، وكذا تفعل ناردين، ينغلق التابوت ولكن ليس قبل أن تلمح ناردين وجه مألوف وتصيح: انتظر.
يُغلق التابوت، ويسود الظلام بالداخل، يمر صمت مُطبق، تشعل ناردين قداحتها الذهبية وهي تكاد تلتقط أنفاسها.. هي وهلسنج سويًا في التابوت محكم الغلق، لا تسمح لهما المساحة بالحركة، تسعل ناردين، وتحرك ضوء الشمعة ثم تتسع حدقتا عينيها في رعب، هناك جثة متحللة معهما في التابوت! ومن تلك الجثة تخرج عشرات الفئران التي تعبث في مرح.
المشهد: هلسنج وناردين في التابوت، بالخارج تهيم الشياطين والمسوخ
الحوار:
ناردين الصباغ: لقد انقضى الأمر، لا مهرب لنا
فان هلسنج: كنت أعتقد أنك شخصية ذات بعد خاص بالمقاومة وعدم الاستسلام، مثلك مثل لوبين وتمبلر من قبلك، لا تلوثي الجو بكل طاقة اليأس تلك
ناردين الصباغ: آه آه طبعًا آسفة، لم يكن ينبغي لي أن ألوث هذا الجو الإيجابي الجميل المفعم بالجثث المتحللة والفئران والديدان.. يا لي من خرقاء متهورة!
فان هلسنج: هذا أفضل، السخرية بها دلالات لقوة الشخصية
تنظر له ناردين بحنق من طرف عينيها.. ثم تعيد ما قالته بصيغة تساؤل “هل يوجد مخرج لنا؟”
-لا أعلم يا ناردين، أشعر وكأننا داخل حلم شخص ما، شخص مخبول، يحلم بموتى يخرجون من جدران قصر عتيق بعد أن التحمت عظامهم به، قصر به غرفة حمراء تمثل جحيم دانتي حيث المعذبون ومنسلخي الأجلاد معلقين بخطاطيف حديدية من الحائط، وآكلة لحوم بشر يحيون بين ممرات القصر، دعك من الغول المكون من أشلاء بشرية والأرواح الشيطانية وطاقة الشر بالقصر وقدراته على التلاعب بعقلك.. هذا المكان من أكثر الأماكن شرًا ورعبًا في العالم.
صمتت ناردين مفكرة في كلام هيلسنج فابتسم الأخير، لم ترِ الفتاه ابتسامته لكنها شعرت بها فسألته: ما بك؟
-أنت تخليت عن نفاذ صبرك وعدت لروح الكاتبة الشغوفة المحبة للاستطراد وفكرتي حقًا فيما قلته
هزت ناردين رأسها في استسلام، فسألها هيلسنج: لماذا طالبتيني بالانتظار قبل غلق التابوت؟
-خيل إليّ أني رأيت وجه صديق قديم، لكنها أوهام القصر ليس أكثر، لا عليك
-حسنا.. لا يوجد شيء لدينا نفعله سوى الانتظار، هذا ما فعله بروس لي في فيلم قبضة التنين، عندما وقع في شرك الأشرار، لم يقاوم، بل انتظر بمرونة كأنه يمارس اليوجا
-وهل نجا في الآخر؟ يا له من سؤال أخرق.. بالطبع نجا، نتحدث عن بروس لي هنا بعد كل شيء وفيلم من السبعينات.. المضحك هو أن أسمعك أنت تتحدث عن بروس لي، أنت ولدت قبله بمائة عام
-نحن شخصيات أبدية والزمن ليس بعدو لنا كما يعتقد البعض
-الزمن عدو لي في اللحظة الراهنة، أنا لا أطيق الانتظار الملول حتى لو هناك مسوخ جهنم كلها تنتظرنا بالخارج
ابتسم فان هيلسنج بجانب وجهه، ابتسامة واضحة رأتها ناردين تلك المرة، وقال: إذن دعيني اسليك قليلًا، ما الذي تعرفينه عن الاستحواذ في أدب الرعب ؟
فان هيلسنج يتحدث:
آه، تاريخ الاستحواذ يعود للحضارة الفرعونية وبابل نفسها، تحدث القدماء عن الاستحواذ، القط الأسود يخرج من المقابر ليلًا محملًا بأرواح الموتى الصاخبون “بولترجايست” الذين هم إما لصوص شنقوا أو ضحايا تعرضوا لميتة عنيفة، ويسير القط الأسود متبخترًا بين البشر الغافلون، ذوي الأرواح الواهنة، الفقراء، أو المكتئبون من علية القوم، ومثل موزع الهدايا تخرج الروح الشيطانية من القط لتستحوذ على الضحية المختارة. تلك حكايات الاستحواذ عند الفراعنة وأهل بابل.
أما عند الفايكننج وأهل الشمال مثل قبائل السلت والجرمال، فالاستحواذ قد أتى من المستنقعات وليس من خلال أرواح الموتى، بل شياطين ومسوخ قديمة، كائنات غير بشرية تطلب القرابين وتأخذ أجساد البشر لتحل بها وتعبث بها وتمزقها كالدمى.. وفي القرون الوسطى وبعد ظهور كتاب “ماليه ماليكفران” أو مطرقة الساحرات الذي تسبب في موت مئات السيدات والفتيات البريئة بعد تعرضهن للتعذيب، تطور الاستحواذ من وجهة نظر البشر، هنا نجد ساحرات يعقدن اجتماعات ليلية في الغابة الأوروبية، كغابة شيروود ولكن بلا روبن هوود، وهناك غراب يراقبهم، طبعًا الغراب هو إبليس نفسه يراقب عبدته أو ساحراته وهن يلتهمن قلوب الأطفال الرضع من أجله.
هذا نوع مختلف من الاستحواذ، له علاقة بالسحر الأسود والنيكرومانسي، فن التهام أجساد الموتى لمعرفة أسرارهم بالسحر الأسود، أنت تعرفين أن هتلر كان مؤمنا جدًا بالماورائيات والنيكرومانسي، على أي حال، ظهر في عصر هارون الرشيد بمصر، حالات استحواذ لمراهقين يقيئون دمًا، ويلتهمون شفاهم، واضطر أهاليهم لتقييدهم في الفراش، طبعًا حاول ابن سينا إيعاز الأمر للعقل والنفس البشرية، لكن علم النفس لم يكن قد اكتشف بعد، ولذا تم تفسير تلك الحالات على أنها استحواذ من كائنات بشعة تُحيي في بعد مواز وهم الجن. كائنات شيطانية تحاول الاستيلاء أو المساس بجسد المراهقين، وفي الأغلب يكون الضحايا فتيات، بعض النظريات تشير إلى أن الوعي الجمعي يميل لكون الأنثى ضحية رئيسية في أدب الرعب لأن فكرة البطل الواهن تجعلنا نشعر بالترابط مع الحكاية، أين كنت؟ آه موضوع الجن والاستحواذ عند قدماء العرب، طبعًا تدخلت الشعوذة مع الاحتيال لإفساد خيال الأمر برمته، وصار هناك الكثير من الخلط بين الحالات النفسية وحالات الاستحواذ الحقيقية.
لكني أؤكد لك يا صغيرتي.. قالها فان هلسنج مبتسمًا على ضوء اللهب، وتابع: بعض الحالات الحقيقية، لا تنس أن هناك محاكمة شهيرة في الثمانينات لرجل قتل أسرته وكان الدفاع يصر أن موكله كان تحت تأثير استحواذ شيطاني لكائن لن نذكر اسمه هنا، الحقيقة أن مجرد ذكر اسمه يوقظه من قبره البعيد ويحضره إلينا وللقراء ولا أعتقد أنهم في حاجة إلى هذا.
الحقيقة أن الاستحواذ لم يأخذ صورة حقيقية ذات فاعلية في الأدب إلا بعد تقديم ويليام بيتر بلاتي لتحفته الأدبية “الاستحواذ” أو طارد الأرواح الشريرة كما تنص الترجمة الأصلية. تلك الرواية كتبت بأسلوب تشارلز ديكنز في الوصف والسرد، أما تقديم الشخصيات والحوار فقد أبدع “بلاتي” في تقديمه بسلاسة ونعومة، حتى أنك تكاد ترى الشخصيات وهي تتحدث وتتفاعل مع بعضها البعض، مشاهد الرعب من أفضل ما قرأت، تشويق وصدمة لا نهائية، رواية جميلة أحببتها بحق، وطبعًا أتى مخرج موهوب يدعى ولايم فرينكدين ليحول رواية طارد الأرواح لفيلم سبعيناتي خارق التأثير، تقنيات هذا الفيلم في السرد كانت مرعبة بحق، خدعة سينمائية تلو الأخرى حتى أنه كان يضع مشاهد أقل من ثانية وسط مشهد آخر ليعبث بعقلك الباطن إبان المشاهدة، الفيلم حظى بحالة نجاح جماهيرية رهيبة، وفقد بعض المشاهدين وعيهم أثناء العرض وأجهضت الحوامل، خصوصًا في مشهد.. آه لا داعي لإفساده فقط اقرأ الرواية وشاهد الفيلم بعدها.
كما قلت الرواية أدبية كلاسيكية ستتعلم منها الكثير، رواية طارد الأرواح والفيلم المأخوذ عنها مهدوا الطريق لفكرة الاستحواذ، وظهرت روايات تحاول التقليد مثل رواية “الرعب في منزل أميتيفيل” والتي حاول كاتبها إقناع الجميع أنها مستوحاة من أحداث حقيقية ليزيد من مبيعاته، نعم هناك منزل يدعى أميتيفيل ونعم استيقظ الصبي ليلًا ليقتل جميع أفراد بيته، وفي محاكمته قال إنه لا يتذكر شيء، أن البيت استحوذ عليه وكان يسمع أصوات بعقله تأمره بقتلهم. تلك كانت المحاكمة الشهيرة التي ذكرتها سابقًا، الحقيقة أن رواية “الرعب في أميتيفيل” رغم نجاحها وتحويلها لفيلمين لا بأس بهما على الإطلاق، لكنها من وجهة نظري محاولة لاستغلال الفاجعة التي وقعت بالمنزل من أجل جني المال.
نحن لسنا في حاجة لقبح الواقع في الفن، نعم، لا يوجد فن خام وخيال وشغف قادم من العالم الخفي داخل قلب وعقل الفنان في رواية “الرعب في أميتيفيل “، على خلاف رواية طارد الأرواح لبيتر بلاتي، وهي رواية ذات حبكة بسيطة وجميلة كما قلت سابقًا، جمالها في التعرف على الشخصيات وتفاعلهم مع بعض، فكل شخصيات تلك الرواية ثلاثية الأبعاد ومثيرون للاهتمام جدًا.. هذا نوع آخر من الرعب سنتحدث عنه في المقال القادم، مجموعة شخصيات في مكان مغلق يواجهون رعب خارجي.
عودة لموضوعنا، الاستحواذ في السينما والأدب والوعي الجمعي البشري. في رواية البريق لستيفن كينغ -وليس فيلم كوبريك الشهير- يتعرض جاك تورانس لاستحواذ شيطاني من فندق الأشباح بغرض قتل عائلته حتى أن جاك تورانس يتحول جسديًا لمسخ في نهاية الرواية، في الفيلم طبعًا الأمر مختلف، وأنت تقرر بنفسك هل تورانس مخبول نفسي قرر قتل عائلته أم أن الأشباح دفعته لهذا؟
هناك استحواذ من نوع آخر في رواية مقبرة الحيوانات الأليفة لستيفن كينغ أيضًا، المقبرة السحرية إياها، لو دفنت فيها أحبائك سيعودون إليك، ولكن بأي ثمن؟ ستعود أجسادهم فحسب بينما هناك مسخ شيطاني “الانديجو” مستحوذ عليهم ويحركهم كالدمى ليؤدوا أغراضه التقليدية كالذبح وتقطيع الأشلاء. تلك الرواية كانت مستلهمة من قصة مخلب القرد الكابوسية والتي كتبت منذ أكثر من مائة عام عن رجل يجد مخلب قرد أشبه بمصباح علاء الدين، هذا المخلب يعطيه ثلاث أمنيات، الأولى كانت جني المال، والناتج كان طرقات على بابه في اليوم التالي ليجد رجل من المصنع يعطيه مال تعويض لموت ابنه هناك في حادثة، الأمنية الثانية كانت أن يعود ابنه من الموت، وتتحقق الأمنية الثانية، ويعود الابن. تلك ربما أول قصة زومبي في الأدب الحديث. يقف الابن العائد من المقبرة، جثة بوجه متحلل، يطرب بيت أبيه، ويفتح له الأخير.. فماذا وجد وماذا رأى؟
في الألفية الجديدة ظهرت أفلام مثل تطهير إيميلي روز، وعدة أجزاء لطارد الأرواح، ربما فيلم The conjuring من أشهر الأفلام الحديثة التي تحدثت عن استحواذ روح ميتة لجسد بشري، وسلسلة أفلام Insidious كذلك.
ولكن.. هناك شيء غفلنا عن ذكره.. فيلم أو رواية ذائع أو ذائعة الصيت، هذا العمل قدم لنا فكرة الاستحواذ بشكل مرعب لا ينسى، هل تعلمون ما هي الإجابة يا رفاق؟ ليكن هذا هو لغز اليوم.
أعلم أن ناردين قد فقدت تركيزها الآن فهي لا تعبأ بالجزء الخاص بالمسابقات، هي تحاول فتح التابوت، المجنونة، انتظري يا فتاة، سيكون فيه هذا هلاكنا جميعًا.
حسنا كان معكم إبراهام فان هيلسنج، من داخل تابوت مغلق بقصر سليمان، أراكم الأسبوع المقبل، هذا لو نجونا طبعًا، سنتحدث عن رعب الأماكن المغلقة وأسرار الاستحواذ وأشياء كابوسية أخرى، ولا تنسوا، لهؤلاء منكم الذين سيتمكنون من حل اللغز، فان هيلسنج في انتظاركم.