هناك شخص يصرخ داخل رأسي ويكاد يشد شعره غيظًا، ويهتف بتحدٍ: ما الذي ستقوله؟ لقد قضي الأمر، الخراب عمّ كل شيء. الدمار والألم هو اسم اللعبة الآن. الجميع ينشر مقاطع فيديو لضحايا الحرب منذ قرابة العامين، أطفال تزهق أرواحهم بأبشع الطرق. ما الذي ستقوله؟ وما أهميته؟ هناك حروب؟ لطالما كانت هناك حروب… حوادث وقطارات تحترق وحافلات تنقلب؟ أين الجديد في هذا؟ أطفال تُنتزع أحشائهم، وغلاء رهيب في الأسعار حتى لتشعر بأن العالم بصدد مجاعة اقتصادية عظمى؟ أين الجديييييييييييييد؟
كذا يكرر صاحب الصوت وقد بدأ في اقتلاع بعض من شعره من جذوره بالفعل. حاولت تنبيهه لكنه كان مستغرقًا في غضبته، وهو يتواثب واللعاب يتطاير من فمه، ويصيح: التاريخ يعيد دومًا نفسه…
للقراءة| عن الأمراض الرقمية في “مدينة المليار رأي”.. حوار مع الكاتب محمد عبد الرحمن
هززت رأسي بقوة، وأغلقت الباب في وجهه…
كلا… أعني نعم… بل كلا…
التاريخ يعيد نفسه، والبشر كانوا يأكلون بعضهم البعض في المجاعات، ويحرقون البلاد، ويقتلون شيوخها ونسائها بعد رجالها، ويبتكرون وسائل تعذيب وإعدام بشعة و…
لكن…
هناك شيء مختلف تلك المرة، بخلاف أننا نحن من نعيش تلك الحقبة.
فيما مضى قام نفس البشر باكتشاف الأدوية والبناء المعماري وتطوروا وتوصلوا للتكنولوجيا… اكتشفوا الفن والفلسفة في كل حضارات التاريخ… بل إنهم اكتشفوا الموسيقى! فكر بالأمر… كيف يكتشف أحدهم الموسيقى؟
نعم، الأمر مختلف تلك المرة…
لأن هناك عاملًا لم يكن هناك من قبل.
السوشيال ميديا أفقدت البعض القدرة على الاندهاش، فأخذوا كل شيء كأنه أمر مسلّم به.
بالمناسبة، رؤية مجذوب أو متشرد في الشارع ليس بأمر هين ولا معتاد؛ البعض يندهش ويتألم عند رؤيتهم، آخرون يمتعضون، وكثيرون لا يلقون بالًا لأنهم قد اعتادوا الأمر.
وهذا هو الوجدان الجماعي أو الوعي الجمعي بكل بساطة.
رغم اختلافنا في الهوية والشخصية والنوع، فإن جزءًا من وعينا مترابط؛ لهذا كلنا نحلم ولا نستطيع تذكر بداية حلمنا، ولهذا يهاب أغلبنا الظلام والأفاعي…
والآن تحرك شيء ما خبيث، وانسل إلى الوعي الجمعي…
وإلى يومنا هذا لم أقوَ على مشاهدة مقطع فيديو واحد لضحايا فلسطين أو لبنان؛ لأني سأفرغ جوفي وأجن وأفقد القدرة على النوم للأبد. لم أنشر أيًّا من تلك المقاطع لأن – رغم أني أعلم حسن نية من ينشرون أنهم يحاولون تنبيه العالم – لن أقوى على نشر شيء كهذا، لأني أعرف جيدًا العرض الجانبي له…
التعود…
يمكن تلخيص الأمر كله في معادلة: “ما قبل الصدمة، الصدمة… السوشيال ميديا، والتبلد”.
عالم قاسٍ هو، قسوته تلتحم مع جماله في صراع أبدي…
لأن هناك جمالًا كذلك…
ولكن في تلك الأعوام الأخيرة…
تغيرت الكثير من الأشياء…
الحرب لم تكن إحداها…
لقد شاهدت مقتل محمد الدرة في الأنباء وأنا طفل…
ومنذ طفولتي، وفي كل صلاة، أدعو لأهل فلسطين بالنجاة والنصر…
والآن لبنان… وحرب أخرى في السودان…
الحروب بدأت منذ هابيل وقابيل بالمناسبة…
فلسطين… لبنان…
ليرحمهم الله وينصرهم، لا أحد يتخيل أن يرتجف داخل بيته مرتعبًا وصوت القاذفات المنذر بالهول، وهو يرى جثث أهله أمام عينيه…
عندما تشاهد فيلمًا أو مسرحية أو تقرأ قصيدة أو رواية عمّا يحدث في فلسطين ولبنان ستبكي، وتتحرك مشاعرك وتحاول مساعدتهم… لكن عند رؤية هذا التوثيق الواقعي البشع المنتهك لحرمات الموت كلها، فلسوف تتلف روحك ولا تجد سوى التبلد في النهاية…
مثل هذا الفيديو القبيح والملعون للفتاة التي قتلها هذا الفتى بسكين في المنصورة، لم أقوَ على مشاهدته، ولا حتى على التفكير فيه!
لذا أعتقد أنه يمكننا الكتابة عن الأمر، تمثيل تلك المشاهد وتقديمها، وليس فحسب توثيقها ونشرها.
نحن ننشر تلك المقاطع الرهيبة والبشعة لهؤلاء الشهداء، في لحظات هم معذبون ويعانون فيها، والعالم كله يغض بصره ولا يبالي…
لاحظ أني لا أقول إنه يجب ألّا ننشر! لكني أشير إلى عرض جانبي لو انتبهت له فلن تتعرض له، ألا وهو “اعتياد” الأمر…
يتهشم الباب إياه على مصراعيه، ويصرخ الرجل الغاضب: وستقدّم تلك الأشياء لمن؟ العالم لا يهتم، هذا هو سلوان الدنيا… الكل يتحارب لإهلاك الآخر…
أشرت له بالصمت… فكرت قليلًا…
كلا… أعني نعم… بل كلا…
ما يثير هلعي هو تعبير البؤس على وجوه القوم في الشوارع والأرجاء… الجميع مهموم… وكأن العالم فقد روحه…
الحالة النفسية للعالم: اكتئاب حاد.
المشخص: السوشيال ميديا.
السبب: السوشيال ميديا.
العلاج: السوشيال ميديا.
تبًا لهذا المنطق، لماذا نلوم وسائل إلكترونية قررنا نحن إدمانها وتعظيم قدرها؟ كأننا أطفال ولم يجب على الكبار تقديم الهاتف الخلوي لنا…
ما يثير هلعي هو أن كتلة الوعي الجمعي للأجيال قد انفصلت وانشقت…
كان هناك ترابط وتتابع، حقيقة أن كل جيل كان يذم من يليه، ويتمرد على سابقه… لكنهم كانوا مترابطين في الوعي الجمعي بشكل ما… سواء في دهاليز الدين والعلم والفن والفلسفة…
والآن أتت السوشيال ميديا لتقطع حبل الوريد، وتكوّن وعيًا جديدًا تمامًا…
إما أننا سنرقص في الـ”ستوريز” ونعبر عن حبنا لذواتنا، أو سنفرغ عن رغباتنا المكتوبة في النقد والتنظير لأن هذا يشعرنا بأهميتنا…
تبًا، هل انتقدت للتو؟
أحيانًا أعتقد أن النصيحة لهي نوع من الإثم، هي تفيد غرور مقدمها أكثر من إفادة من يتلقاها… أكرر “أحيانًا”…
أبدو كرجل عجوز يتحدث عن زمن ما ولم يعد… وأتمنى أن يكون هكذا الأمر…
وألا تكون الحقيقة أن مفاهيم مثل التعاطف والشعور قد غلب عليها التبلد والابتذال…
أعني لنكن واقعيين، لماذا موقع تواصل مثل “فيسبوك” به هذا القدر من الابتذال الفكري ومحتويات مقاطع “الريلز” العجيبة التي لن تجدها في أعتى النوادي الليلية! ولا تحدثني عن عدم التنقيح أو أن هذا ما يحدث عندما تعطي الكل الفرصة ليعبر عن رأيه وأفكاره، فعندما يحدث هذا تنقسم الفرق ونجد لدينا رأي مضاد…
أين الفرقة الأخرى؟ أين المنطقيون؟ لماذا لا يتحدث أحد دون هدم آخر؟
دعني أقول لك شيئًا مضحكًا، كان الناس مثقفون في ما مضى، وأعني بمثقفون أنهم يمتلكون مخيلة واسعة واطلعوا على التاريخ والفن والأدب، وربما تفلسفوا قليلًا وكونوا هوية فكرية لأنفسهم…
كان هناك قتل وسرقة وحروب وجرائم بشعة حينذاك كذلك…
لكن الوعي الجمعي لم يكن قد تغير…
باختصار لم تكن الحياة قد فقدت روحها بالفعل، والآن يبدو وكأن الحياة تقف على حافة الشرفة كالبلهاء، تبكي وتريد القفز ونحن نهلل من خلفها نستجديها ألا تقفز، وأن تعود…
نحن بحاجة إلى فطرة سليمة…
بحاجة لأن نتجه بالدعاء لله سبحانه وتعالى…
بحاجة لأن نكتشف ذاتنا…
نكف عن الانتقاد والنصح، ونبحث عن الجمال…
نحن بحاجة لأن نعرف حدود السوشيال ميديا وكيفية ترويضها…
نحن بحاجة لاستعادة قيمة التعاطف، من دونها تنعدم المقدرة الإنسانية لأحد أن يكترث أو يساعد أحدًا سوى نفسه…
نحن بحاجة لإنهاء محاولات النجاة الفردية…
تحدث عما يؤذيك، ابحث عن من هم مثلك، أشير هنا إلى الحالة النفسية المسيطرة على الجميع…
رب
ما الانهيار الاقتصادي، ربما تأثير السوشيال ميديا والحروب، ربما الغلاء، ربما هو الفاكسين اللعين إياه عقب كورونا وقد غير شيئًا ما في الهيكل النفسي لمن أخذه كعرض جانبي…
لا أعلم، ولن أقدم نصائح بالتأكيد…
كل ما أحاول فعله هو أن أشعر وأجعلك تشعر…
لا أريد سوى هذا…
الفن وسيلة نجاة وكذلك العلم والدين بالطبع… فما بالك لو مارست الثلاث، وحاولت أن تتحكم بعقلك بدلًا من ترك الأخير يعبث بك…
هل تعرفون تلك الجملة “القلق هو من تقديس وعبادة للمشكلة نفسها”، لقد أصبحنا مهمومي التفكير، نقلق كثيرًا ونفترض مئات السيناريوهات، نترك عقلنا يقدم لنا فرضية ما، ونغرق نحن في وسائل حلها، وهي لم تحدث بعد!
وأرجوكم ألا تعتادوا الأمور…
مأساة فلسطين بدأت منذ الأربعينيات، وليس عامًا فحسب…
والآن لبنان…
يجب أن نشعر على الأقل، لا تعتادوا الأمور كما حدث مع المجاذيب!
سأظل أحلم بعالمٍ يمشي فيه الناس بكتب بدلًا من الهواتف الخلوية، يتبادلون التحية في الشوارع ويبتسمون لبعضهم البعض، سيكون هناك قتل وسرقة وحروب لأن تلك أعراض جانبية للبشر، ولكن الشر سيظل يخاف في هذا العالم، لن يعلن سطوته، ولن تنتشر تلك الأفعال القبيحة على مرأى من الجميع بلا رادع…
سأحلم بمحيطات وأشجار وجبال ذات قمم فارعة تلتحم بالسحب، بمسرح وموسيقى وكتب وأماكن أثرية جميلة وعتيقة، باكتشافات علمية مفيدة، بشفاء الأمراض، بطب حديث مقدم للجميع، بدار أوبرا وراقصي باليه…
نحن بحاجة لأن نقنع أنفسنا بأننا قد ولدنا من جديد، وغسلنا كل خبال الماضي عن أنفسنا…
وعلينا الذهاب إلى أماكن العبادة، وأن نمتن لنعم الله علينا…
هناك سحر جميل وهدوء بال في دور العبادة…
سيؤكد لك هذا من عاد للتو من مسجد أو كنيسة…
وربما نستعيد أشياء كانت موجودة في أعوام مثل 2019 و2017…
أشياء تدعى الشغف والطاقة والروح!