نقلا عن موقع “جودريدز“
رواية “عابرون” هذه تجربة أدبية مختلفة جدًا، نسيج مبهر بين عناصر الفلسفة، العلاقات، والجريمة، بطريقة مبتكرة وممتعة. فيها استغلت الكاتبة الدكتورة سمر عبد العظيم أحداث روايتها لتلقي فيضًا من الأسئلة الوجودية الفلسفية، والتي تماهت مع أحداث مشوقة مغزولة بعناية فنان.
لم تترك فرصة أثناء القراءة – عن قصد في ظني – للرد على سيل الأسئلة قبل متابعة الحدث التالي، وهو ما وجدته تعمد ذكي من المؤلفة، إذ أنها كانت تسعى بكل قوتها لوضع القارئ في حالة محددة لم تتنازل عنها، لتلقي عليه رؤية فلسفية معينة، بشكل مكثف.. ثم تتركه لنفسه ولأحداث روايتها -التي انتهت ولم تنتهِ- بعد انقضاء صفحات الرواية.
أعجبني حرص الكاتبة على الانتصار للتساؤلات الفلسفية مع الاستعانة بالأحداث المشوقة، ودراما المكان الواحد التي طالما اعتبرتها أحد أفضل وسائل مناقشات الأدب والفلسفة في آن واحد. حيث يلتقي القدر مع الوعي، وتتكشف أسرار أصحاب الحكايات تباعًا، لكنك تدرك من اللحظة الأولى أنهم جميعا ملأى بالأسرار.. لتنتج هذه الحبكة المشوقة التي تجعلك مشدودا في فضول لمعرفة الحدث التالي والرضى بالانتظار للإجابة عن الأسرار في النهاية.
كما طغى عنصر تطور الشخصيات والأحداث على عنصر الزمن بشكل واضح.. ففي هذه الرواية تدور الأحداث في فلك مستقل.. ومعايير زمانية خاصة بها.. حيث اختزلت الكاتبة الزمان بشكل كبير.. وقفزت فوق منطق تقليدية التسلسل لتصنع لأبطال حكاياتها ردود فعل خاصة بهم وحدهم تتسق فقط مع إيقاع أحداث الرواية ذات الدراما الخاصة بها فقط.
تقدم الرواية في بدايتها مشهد تعارف غير تقليدي لأربعة أبطال على متن قطار في رحلة طويلة.. رجلان وامرأتان لا يعرفون بعضهم من قبل، أو هكذا ما تدعيه المؤلفة.. يكسرون حاجز الغربة وينصاعون طواعية للجوع الإنساني، وهذا ما نكتشف أسبابه لاحقا مع تطور البناء الكامل لشخصيات الرواية.. ثم تتركنا المؤلفة قليلا لتتنقل بين حدثين آخرين يدوران في توازٍ زمني مثير على متن نفس القطار.
الحدث الأول هو علاقة معقدة بين رجل وامرأة هاربين من حياتهما الحزينة، يحاولان سرقة بضع ساعات من الدفء لأنفسهما.. والحدث الآخر هو قتيل ملقى في صمت داخل إحدى عربات القطار حتى منتصف الرحلة تقريبًا..
تجسدت جماليات الرواية في سلاسة السرد رغم غزارة الأحداث، وإتقان تطور الشخصيات رغم قصر زمن أحداث الرواية (اثنا عشر ساعة تقريبًا)، لكن أهم ما ميز العمل في رأيي هو فلسفته العميقة التي لم تقتصر على السرد الخارجي للأحداث، بل تغوص في جوهر صانعي الأحداث، الرئيسيين والثانويين بنفس القدر تقريبًا، وهو أمر يحسب للمؤلفة التي أجادت تشريح نفسيات جميع أبطالها بحرفية عالية.
تطرح الرواية تساؤلات فلسفية عميقة داخل إطارها المشوق مما جعلها رحلة فكرية مثيرة، تخاطب القارئ المخضرم.. إذ أن فلسفتها لم تكن مجرد تصورات رمزية معتمدة على المجاز، بل لحمًا ودمًا ممزقا وملقى على أرضية القطار. في نفس الوقت الذي يخوض فيه الأبطال الأربعة رحلة البحث اللانهائية عن الخلاص. مما يجعل الرواية بعد انقضائها رحلة حقيقية تناقش معنى الوجود وماهية الحياة.
وعبر مفاهيم ثلاثة ناقشتهم الكاتبة بجرأة وشجاعة وهم: الوعي، الذاكرة، والقدر. تكشف الرواية معاناة الإنسان المستمرة في بحثه عن معنى وجوده وجدوى أثره في عالم مشوش يحارب فيه الشك باليقين منذ بداية الرحلة، أم نقول بداية الحياة. ثم بانقضاء الرحلة تطرح المؤلفة سؤالها الأكثر جرأة عبر صفحاتها: هل الإنسان منح المقدرة على السيطرة على مصيره حقًا، أم أنه في نهاية المطاف، مجرد عابر من العابرين في رحلة القدر داخل أثير خاص بكل منهم.
في رأيي الشخصي “عابرون” رواية تخاطب القارئ المفكر والذكي في المقام الأول.. القارئ الباحث عن معطيات تسهل له الإجابة عن أسئلته هو، عبر القراءة وليس التشويق والمتعة فقط. وأيضًا القارئ الذي يبحث عن التساؤل المثير وليس التساؤل السهل المطروح بإجابات تقليدية مسبقة ومرضية للقانع بالأفكار البسيطة.