لم أجد له جوابًا حين سألني عن ولهي بالحديث عن الجريمة، فلم يكن الجواب حاضرًا. من منا يعلم لماذا يهوى الطرب أو الرياضة أو الشعر؟ من منا يعلم لماذا اختار له الكون ما يجعل يومه مشبعًا دون غيره؟
لكن بقليل من التفكر تستطيع أن تصيغ فكرك في الكلمات، وبخاصة إذا كنت كاتبًا، وهذا ما سأحاول فعله في السطور القادمة.
هناك ظاهرة حديثة وقديمة في ذات الوقت، قديمة بقدم ملحمة قتل أوزيريس في الأسطورة المصرية القديمة، والتي وثقت حكاية جريمة عائلية قتل فيها ست أخاه أوزيريس. ليخلد ذكره بعد ذلك ليس فقط كإله للعالم السفلي، كبطل لدراما لم يكن التاريخ يعرفها من قبل، وكأول رواية أدب جريمة شهدتها جدران المعابد ومضامير الحكي الموجودة آنذاك.
ظاهرة حكايات الجريمة اندلعت بعد ذلك لتروي تاريخ صراع الخير مع الشر منذ القدم، وتوارثناها من أماكن دونت بها عبر العصور والحضارات المختلفة.
ولكن أين دونت حكايات الجريمة؟
بدأ تدوين حكايات الجرائم الأولى من خلال النصوص الدينية، مثل حكايات القرآن الكريم التي دونت قصة القتل الأولى في مطلع تاريخ البشرية، والتي قادها أول دافع إجرامي عرفه البشر: الغيرة والحقد. هذان الدافعان لازما الإنسان منذ ذلك اليوم، كلعنة باتت تؤرق حياته وتستنزف وقود الصراع الأزلي بين الخير والشر.
ثم بدأت الحضارات المكتوبة، التي نقشت لنفسها تاريخًا، في توثيق حكايات الجريمة. إما في قوانينها وتشريعاتها المكتوبة كقانون حمورابي الذي نقش على أعمدة بابل الحجرية، أو في النقوش والبرديات المصرية والرومانية القديمة، أو على ألواح طينية كما وثقتها الحضارة السومرية قبل ألفي عام قبل الميلاد.
حين بدأ الإنسان الإبداع وظهر الأدب الملحمي والأساطير، تصدرت الجريمة المشهد من جديد لترقص بين صفحات الأدب الصيني في أيام حكم سلالة شانغ وسلالة تشو. وتجلت في الأدب اليوناني كذلك حين تجسدت حكايات الخيانة والجريمة في رائعة هوميروس “الإلياذة والأوديسة”.
للقراءة| “ضي بلا قمر”.. قصة قصيرة لـ سمر عبد العظيم
أما في الهند، وهي من الحضارات التي تزينت فيها جميع الأحكام بالقصص، فإن الجريمة وحكاياتها لم تغب عن المشهد. “المانوسمريتي” أو قوانين مانو في الهند القديمة ظهرت كأحد أقدم النصوص التي تسجل الجرائم والعقوبات في الهندوسية، وتشمل قوانين تتعلق بالجرائم مثل السرقة والقتل والزنا.
حكى الأولون حكايات الجريمة واستفاضوا ربما في محاولة لتنظيم المجتمع ووضع لبنات مبدأ حتمية انتصار الخير في الصراع الذي لم يكن يومًا غائبًا عن المشهد التاريخي أو السياسي أو الديني أو الاجتماعي. باختصار، فإن هذا الصراع كان ولا يزال هو محور الوجود. وإيمان البشر بحتمية انتصار الخير وقربهم من هذا اليقين أو بعدهم عنه ما هو إلا نتيجة لمحددات اجتماعية لكل مرحلة في التاريخ.
أما عن هذا الصراع، فإنه كان ولا يزال محور فلسفة الأديان، سواء كانت سماوية أو أرضية. بينما يتجسد في بعض الأحيان في شخصيات محددة مثل أهورامزدا وأهريمان في الزرادشتية، أو في التوازن الطبيعي بين “اليين” و”اليانغ” في الديانة الطاوية الصينية، إلا أن جميع هذه النماذج تشترك في تقديم هذا الصراع كجزء أساسي من التجربة الإنسانية والدينية، حيث يُعتبر الخير هو النظام والانسجام، بينما الشر هو الفوضى والمعاناة.
تطورت حكايات الخير والشر وتجسدت في حكايات الجريمة خاصة، ربما لأن الجريمة تقدم صورة مرئية لهذا الصراع، يتمكن فيها الشر من تجسيد ذاته في فعل يمكن للبشر أن يتلقوه باستخدام حواسهم الطبيعية دون استشراف نتائج لم تحدث بعد. هكذا يستطيع الإنسان أن يرى بشكل لا يقبل التأويل ويعيش هذا الصراع في صورة مجسدة.
تختلف حكايات الجريمة عن كل حكايات الصراع بين الخير والشر الأخرى في أنها تنتهي بمخرج يبدو دائمًا عادلًا، يصبح فيه المجرم إما سجينًا أو مقتصًا منه، فيعزز شعور الإنسان بحتمية انتصار الجانب الأصوب في الصراع الأزلي.
تطور صراع الخير والشر في أدب الجريمة من كونه صراعًا بسيطًا ومباشرًا بين الفضيلة والرذيلة إلى تناول قضايا أعمق وأكثر تعقيدًا. من التقاليد الأخلاقية في العصور الوسطى، إلى الأدب النفسي في القرن العشرين، وصولاً إلى تعقيدات الشخصيات المعاصرة، أدب الجريمة يعكس دائمًا التغيرات الثقافية والفلسفية للمجتمع.
ليس غريبًا إذن ظهور الأبطال المضادين في الكثير من الأعمال الحديثة التي تعكس التخبط النفسي والاجتماعي الذي يعيشه الناس الآن في مجتمع عالمي مزدوج المعايير. فيظهر ذلك البطل الذي قد يصدر عنه عمل لا يتسق البتة مع تركيبته الإنسانية ولا مع منظومة أخلاقه. هكذا تستمر حكايات الجريمة في كونها انعكاسًا منطقيًا للمجتمع الذي يحيط بها ومنظومته الأخلاقية وتركيبته النفسية.
الآن وقد أصبح الـ”كان يا ما كان” محتوى مرئيًا له مواصفات خاصة، تبدو وكأنها تحاكي العصر الذي نعيشه بتعدد روافد الحياة العملية وارتفاع نسبة الوقت الذي نقضيه على الطريق، وتأزم الصراع الدولي والمحلي والشخصي لكل البشر، كان لابد أن تتطور حكايات الجريمة كذلك لتصبح في إطار محتوى يخاطب كل هذا التعقيد.
هناك درجة من الإشباع تقدمها حكايات الجريمة لا يقدمها أي محتوى آخر، بخاصة إذا كانت الحكاية مستوحاة من تاريخ مضى وقضية تم الحكم فيها. في تلك الحكايات، يستطيع المطلع أن يرى المستقبل، فيشعر باكتمال الصراع، ربما لأن الإنسان بشكل عام يستشعر دائمًا أن الخلاص يكمن في انقضاء النزال بين القوتين إما بداخله أو من حوله. والشعور الدائم بأن هذه الحرب لم تنتهِ ولن تنتهي يعظم ما أسماه أستاذ جمال أبو الحسن بالخوف في كتابه “300 ألف عام من الخوف”، وهو الخوف الذي فُطر عليه الإنسان كنتاج لهذا الصراع.
تصور حكايات الجريمة هذا الخوف على أنه ماضٍ، ويعيش روادها في شعور وهمي محبب يعزز لديهم اليقين بأن العالم سيكون يومًا ما مكانًا عادلًا يحكمه الخير ويتوارى فيه الشر.
انتبهت يومًا لأحد التعليقات التي ذيلت محتوى قدمته عن الجريمة، كان يقول فيه أحدهم إن الكلام في الجريمة يشجع على الجرم ويثقف الناس فييسر الجريمة. فما لبثت أن تذكرت فيلم “عبده موته” ورواية “الحارس في حقل الشوفان” (Catcher in the Rye) – جي. دي.
سالينجر، ورواية “الاعترافات” (The Confessions) – جان جاك روسو، ورواية “الكوميديا الإلهية” (Divine Comedy) – دانتي أليغيري، وما أثير حولهم من جدل عن تأثيرهم على الجريمة في زمنهم، حتى أن بعضهم منع بيعه في وقت ما، وفي بعض الأحيان تبرأ صناعهم من أفكارهم لاحقًا. لكن يبقى السؤال: كم شخصًا قرأ هذه الأعمال أو شاهدها؟ وكم نسبة من تطور بهم الحال إلى الإتيان بجرم على أثر القراءة؟ هل يمكن لأحد أن يؤكد العلاقة السببية بين العمل والجرم الذي حدث؟
لكل هذه الأسئلة جواب واحد: لا يمكن تحميل المعلومة وتوافرها ذنب جرم كان سيحدث بالقراءة أو بدونها. لا يمكن لأحد الجزم أن هتلر لم يكن ليقدم على ما وصف بأنه جرائم حرب حتى قرأ مذهب الإرادة إلى القوة لنيتشه مثلاً.
لا يمكن لأحد أن يناهض فكرة وضرورة الوعي. فإن قارنّا الجرائم الإنسانية التي حدثت لعدم الوعي بتلك التي حدثت نتاجًا لوعي زائد، لعرفنا دون أدنى شك أن الوعي لم يسفر عنه أي نسبة معتبرة من الشر أو الفساد أو الإجرام. فكم من الجرائم الإنسانية والعالمية إما حدثت نتيجة عدم الوعي أو تستر عليها العالم نتيجة ذات عدم الوعي، كجرائم أمريكا في سجن أبو غريب أو تلك المجازر التي يتستر عليها العالم في فلسطين.
لا يزال الحديث مستمرًا، ولن يسكت الخوف كاتبًا، ولن يهدد الوعي مجتمعًا. فما زلنا نحكي حكايات جرائم مضت، ولا نزال نتساءل عن ريا وسكينة والطوربيني وسفاح الجيزة. لا نختلف كثيرًا عن مجتمعات غربية لا تزال تفرد ساعات البث للتأصيل لحكايات جيفري دامر وغيره الكثير. وبينما سنستمر في الحديث ما دام العالم يخوض حربه ضد اللا منطقية والشر، سيظل الإنسان يشعر بذات الضياع في مضمار خاص وآخر عام.
سنستمر في إفراز مائة مليون أجاثا كريستي ما دمنا نعيش في أرض الخوف.