الأحد, ديسمبر 22, 2024
Dawen APP
الرئيسيةمقالات"ضي بلا قمر".. قصة قصيرة لـ سمر عبد العظيم

“ضي بلا قمر”.. قصة قصيرة لـ سمر عبد العظيم

“بعد أعوام من القحط والجفاف، لم يبقَ لنا إلا القتال على الفتات”، استمر راف في الحديث وهو يحدق من النافذة التي تلطخت بغبار عاصفة الأمس. منذ عقود والجفاف يدمر الأراضي التي اقتات عليها البشر منذ بداية الخلق. لم يرَ أمامه على امتداد البصر سوى صفرة قاحلة.

“ألا ترين يا جان أن الوقت قد حان لتسليم الراية؟ إن من خلق الأرض ربما سيستعيدها قريباً، ونحن لا زلنا نقتتل على شفا الغرق في بئر مياه أسن مشربه.”

استدار جان من جلسته، هاجراً شاشة عملاقة كستها أرقام افتقرت للشرح. كانت شفتيه جافة، شققها العطش، وشعره مطموس اللون بفعل عواصف عدة وندرة ماء الاستحمام. “ماذا تقول يا راف؟ أي استسلام؟ أنحفر قبورنا ونستلقي فيها؟ ألم نخلق في كبد؟ لا زلنا نسير على أقدامنا ويدب الدم في أوصالنا ومعه غريزة البقاء.”

تمتم راف بكلمات غير مفهومة وقد شردت عيناه في الخلاء القاحل القابع خلف الزجاج. مرت أسابيع والعاصفة الجافة لم تنقطع، حتى أن السماء اعتادت صبغتها الصفراء فبهتت عليها وجناتها كوجه مريض لا يرجى شفاؤه.

تعالت أصوات أجراس من الشاشة العملاقة، وكأنها نذير شؤم، وتبع الصوت ومضات من ضوء بدأ عالياً ثم انطفأ. انبعجت الأرقام على الشاشة ثم استحالت إلى نقاط وخطوط زرقاء قبل أن تسلم إلى ظلمة الشاشة.

“لم أكن أحتاج هذا التحدي اليوم!” صاح راف في حنق، “انقطع التيار الكهربائي.”

كان راف على علم بأن المولدات التي تعمل بالسوائل الحيوية باتت على وشك النوم بلا رجعة بعد أن استنفدت كل مصادر الطاقة المتاحة. لم يدرِ أي معجزة كان ينتظرها، ولكن تلك المعجزة لم تحدث، وأسلمه الواقع المرير لتلك اللحظة التي يقف فيها الآن في تلك العتمة الكئيبة.

وقف الرجلان يتبادلان نظرات معتمة في استسلام من أسلم كل الحيل. الأعوام الماضية شهدت ذبولاً متواصلاً لكل شيء تحت وطأة الجفاف والعواصف التي لا تنتهي، والهلاك الذي أصاب كل الموارد. هذه اللحظة كانت وشيكة ولم تخفَ على أحد، ولكن العجز أيقظ في صدر الرجلين التعلق الزائف بالمعجزات والأحلام التي لم تتحقق بمدد يأتي من خلف ستار المعقول لينتشل العالم من ظلام محقق.

لكن عصر المعجزات انتهى، والظلام هو الحقيقة الوحيدة اليوم تحت سماء حجبت الغيوم حتى ضوء قمرها.

للقراءة| سمر عبد العظيم تكتب: الآلهة لا ينقشون على الحجر

أمسك جان بهاتفه في شيء من الجزع، ولكن قبل أن يهم بالاتصال، تذكر أن محطات النقال جميعها انقطعت عنها الطاقة منذ ساعات. تنهد في صمت واستعد لسؤال راف عمن كان يريد مهاتفته.

“كنت أريد أن أحادث نور. لا أدري إن كان مقدراً لنا اللقاء من جديد أم أن لقاءنا الأخير كان الوداع؟”

تذكر جان ذلك اللقاء ودموع نور تبلل صدره ووعود زائفة تبادلاها بلقاء وشيك، وعود لا يملك أحدهما الحفاظ عليها.

“سنلتقي من جديد يا نور، تأكدي من ذلك.” همس جان في حضن استقرت فيه نور.

“كيف تأمن الأرض أن نتوه في جنباتها؟” جاءت كلماتها مرطبة بفيض من الدموع.

تذكر قلبه وهو ينزلق من بين ضلوعه فيئن مرتطماً بأرض معمل الأبحاث. تذكر شعوره وهو يلملم شظايا جزعه خوفاً من أن تلمح انعدام الأمل في عينيه. تذكر ذلك اليوم وكيف أنها طافت به في المعمل لتريه التجارب التي كانت تعمل عليها. أخبرته في ذلك اليوم أن عليه أن يتذكر معها التفاصيل ليحكيها لأبنائهم وللعالم لأن كل المعلومات ستندثر مع انقطاع الطاقة الوشيك. جلسا سوياً على جانب المكتب يدونان ما استطاعا، وكأنهما ينقشان على جدران معبد ربما يحمل حكايتهما إلى أجيال لن يروها.

تحسس جان الأوراق في جيبه. لم يكن يعلم حين أخذها من نور أن هذه الوثائق ستصبح المصدر الوحيد للأمل بهذه السرعة. لم يكن يتصور أن حياته ستبيت مرهونة بكلمة طمأن بها نور بالأمس، “لن نتوه عن بعض، فإن فرقتنا السبل سيجمعنا القدر.” فالطرقات التي باتت مظلمة لم يعد بها أي وسيلة للانتقال ولا أسلوب يسمح بالاسترشاد من مكان لآخر. بات العالم غابة تكاثفت سماؤها بالغيوم واندثرت معالم حضارتها بين ليلة وضحاها.

استدار جان ليشرح لراف تجربة نور وقد أبدى اهتماماً بالأوراق التي صار يتحسسها وكأنها جزء من نور رد إليه، “هذه الأوراق فيها خلاصة أبحاث علماء العالم عن المصدر الوحيد المتبقي للطاقة على هذا الكوكب. سأصونها بروحي حتى أسلمها من جديد لنور.”

أنتبه راف وقد اختنق بالظلام القابع على حواسه، “أتقول طاقة يا جان؟ كيف يمكنك أن تخفي هذا الأمل عن البشر؟”

“ليتك تفهم يا راف، فتلك التي تملك مفتاح المعادلة بعيدة الآن، لا نعرف إن كان مقدراً لنا اللقاء أم أن هذه الأوراق هي كل ما تبقى لي منها.” رد جان وعيناه تتلمسان وهجاً طفيفاً تراقص على استحياء من خلف النافذة. لم يتبين ماهيته إلا حين اشتم تلك الرائحة التي ألفها والتي اصطبغ بها حضنه، وكأن عبيراً أنعش قلبه فشهق ليتلقفه في صدره قبل أن يزفر اسمها: “نور!”

ارتمت نور في حضنه، “حين انقطعت بي كل وسائل الوصول إليك، قادني قلبي حتى شممت رائحتك لأستدل عليك.”

ترطبت عينا راف من مشاعر شعر أنها عبقت الحجرة كنسيم عطر، ولكن تلك المشاعر لم تمنعه من ملاحظة ذلك الوهج الذي جاء مع نور والذي بدا له وكأنه زاد توهجه حين اختفت نور بين ذراعي جان.

لم يسأل راف، ولكن يبدو أن حيرته خرقت ستار الظلمة واستقرت بين يدي جان، فتمتم في تردد، “هذا هو فحوى البحث الذي سألتني عنه منذ قليل. نور باحثة رئيسية في مشروع الإضاءة الحيوية الذي بدأ منذ أوائل التسعينات: Bioluminescence.”

استطرد جان يشرح كيف أن العلماء بعد اكتشافهم لهذه الظاهرة الفريدة وكيف أن الإنسان يمتلك القدرة على أن يتوهج مثله كمثل الكثير من الكائنات حوله التي تختزن الطاقة ثم تبعثها إما للتباهي وطلب التزاوج أو لتخويف الأعداء. منذ أن اكتشف العلماء ذلك والدراسات على قدم وساق لمحاولة التحكم في هذه الظاهرة وتوجيهها للاستفادة من تلك الانبعاثات الضوئية.

تحرك راف في مكانه، فسمع الباقون حفيف ملابسه على المقعد الجلدي الذي جلس عليه. استشعر الجميع عدم الارتياح في الغرفة، والريبة التي قطعها راف بسؤال: “ولكن لم لا نتوهج أنا وأنت مثل نور؟”

قاطعته نور مطمئنة: “تلك هي المعضلة وفحوى البحث يا راف. قضيت العشرين عاماً الماضية وسط فريق بحثي يبحث عن ماهية تلك الطاقة، وعن العوامل التي تنشطها وتلك التي تثبطها.”

سكتت نور فلم يقنع راف بمحاولاتها لإنهاء الحوار، فأكمل: “و….؟”

ابتسمت نور فزاد الوهج حول وجهها ورقبتها، “و…. لدي بعض النظريات ولكنها تحتاج إلى إثبات.”

الحاجة أم الإختراع، ولا يوجد احتياج أكثر مما يختبره العالم اليوم. لا يوجد فرار، وعلى ثلاثتهم الوصول إلى إثبات سريع للنظريات الثلاث التي دونت على الأوراق: “السبب في الوهج هو السعادة أو الحب أو النجاح.” أياً كان السبب الحقيقي فإن العالم سيعيش على تلك الطاقة، وسيتحدد بلا جدال شكل العالم الذي سيعيشون فيه بعد تلك اللحظة.

دخل راف في هدوء إلى مركز أبحاث علوم الفضاء، لم يزل هناك القليل من الضوء ينير المكان ورغم العتمة فإن المكان كان لا يزال يصدح بكبرياء وعزة رجال ونساء يعملون به. وكيف لا تستشعر تلك العزة وهم من اكتشفوا الكوكب الجديد في تلك المجرة المجاورة، والذي أصبح منذ ذلك الاكتشاف وجهة لكل الأغنياء. يشعرون جميعًا أنهم من حفظوا الجنس البشري.

“لديكم بقايا طاقة يا رامي” افتتح راف الحوار مع زميل دراسته، الذي ظل على اتصال به على مدار العشر سنوات الماضية، رغم أن تفرقت بهم السبل كل في مجال عمل مختلف، لم تستطع الأيام دق الفرقة بينهما رغم ذلك.

لم يبدُ أن رامي ورفاقه على توتر من أي نوع، يبدو أنهم قد استقروا إلى الحل الأمثل ولا يرون أملًا في هذا الكوكب القديم. “كوكب الأرض كوكب نافق يا راف، وللخلق أن يفخر أن لهم رجالًا كأمثالنا اكتشفوا موطنًا بديلاً.”

كان جليًا أمام راف أن هذا المكان هو الأكثر قدرة على اختبار الفخر في أكمل صوره، لا يوجد على ظهر الأرض الآن من يشعر بنجاحه أكثر من رجال مركز دراسات الفضاء.

لهذا جاء راف إلى هذا المكان، وكان عليه الانتظار حتى تنقطع الطاقة كليًا عنه ليستشرف الوهج الذي سينبعث عن المكان.

دق قلب راف حتى استحال ألمًا خلف ضلوعه وهو يشاهد آخر صفرة منبعثة من آخر مصباح تموت تدريجيًا وتلتهمها الظلمة. فتح عينيه في تمني فلم يجد سوى لا شيء، لا شيء إلا ظلام يشقه ضحكات علماء مركز الفضاء. كان عليه أن يعود إلى رفاق البحث ليؤكد لهم أن الانبعاث الضوئي الذاتي لا علاقة له بالنجاح.

دخل جان إلى غرفة الاستقصاء حيث تواعدوا على اللقاء، فلم يجد سوى راف وقد انبعثت منه رائحة عطره ممتزجة برائحة الفشل. أيقن جان أنه ليس الوحيد الذي باء بنتائج تجربة فاشلة، لكنه الوحيد الذي أنفق الأكثر على تلك التجربة. فقد عاد للتو من رحلة فضائية مكوكية إلى الكوكب الجديد. فليس هناك من هم أكثر سعادة من هؤلاء القاطنين على ذلك الكوكب، والذي لم يُولد فيه بعد أي صراع، ولم يتقاتل فيه أحد على موارد لندرتها. قابل هناك أغنياء العالم القديم، جلودهم بيضاء وعيونهم مرتاحة من فرط الاطمئنان، كان حتمًا سيجد هناك الوهج الذي سافر ليبحث عنه. بذل جان كل ما تبقى لديه من موارد ليصل إلى تلك البقعة التي لا يُسمح فيها لأحد بالمرور إلا إن كان من أغنياء العالم القديم، فكان عليه أن يشتري ذمة الجهاز الأمني ليختبر السعادة غير المشروطة في تلك البقعة من الكوكب الجديد.

عاد جان ليحكي كيف أن الظلام الدامس الذي عاشه ليلة الاحتفالات الكبرى هناك، وقبل أن تندلع الألعاب النارية في السماء، كيف أن ذلك الظلام لم يقطعه أي وهج. ولكن النتائج السلبية لأي بحث تُعتبر هامة بالفعل، فالآن بات على يقين من أن السعادة وحدها لا تصنع ذلك الوهج.

جلس الرجلان يتبادلان النظرات في الظلام، فكلاهما يعرف أن الحب كذلك وحده لا يصنع الوهج. إن كان يصنعه، فلم لا يتوهج جان إذا ما ضم نورًا إليه، وهو الذي أحبها بكل نسج في صدره؟

ساد الهدوء المكان المظلم، فليس هناك إجابة للسؤال البحثي، وكل فرضيات نور خاطئة. ارتمى الرجلان على الأرض، يحاول كل منهما ابتلاع حسرته والاستعداد لعالم عاد لعصور ما قبل التطور. وقبل أن يغفو جان، خيل إليه أنه يرى وهجها من جديد، نور تغني من غرفة مجاورة وقد أضاءتها بالكامل بوهج ينبعث عنها، استيقظ الإثنان وقد قادهما الضوء إليها، تبسمت واستمرت في الغناء وهي تطوق جان بذراعيها.

“أين كنت يا نور؟” سأل جان مبتسمًا، وقد رأى كيف أن الوهج حول نور قد زاد حتى أضاء الغرفة بالكامل.

“لم أبرح مكاني يا جان، لم أبحث عن شيء لأني أمتلك كل شيء، لم أذهب إلى مكان آخر لأبحث عن شيء فقدته هنا؟”

قبل جان كفيها فتغير لون الوهج حولها إلى لون الزهور.

ابتسم الثلاثة وعيونهم تطوف الغرفة التي اكتست بلون الحب ورائحة السعادة وطعم النجاح. فلم يعد هناك ظلمة، ولم يبق لهم إلا أن يتعلموا ويعلموا غيرهم بأي فضيلة إنسانية ينقذون العالم الذي وقف على شفى الهلاك. جلسوا على جانبي نور لا يملكون إلا العرفان لرب علم أباهم الأسماء كلها، وأن ما كان عليهما إلا الارتياح إلى أن الجواب لم يكن أبعد من أطراف أنوفهم.

تحدثت نور: “الحب موجود والنجاح نسبي والسعادة قرار، ولا نملك منهم جميعًا إلا الرضا.”

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات