كقارئ يُحب القراءة ممارسةً وفعلاً، يهوي التطلع إلى كل ما تقع عليه عيناه من فنٍّ مكتوبٍ قصةً وروايةً وأثراً، لم أفلت من الوقوع في فخ نجيب محفوظ. بعد فترةٍ لا بأس بها، ظننت أنني حُزت عدداً كبيراً وكمّاً وافراً من القراءات في عُمري المتوسط، لكنني فوجئت بضآلة مخزوني الثقافي عند أول مفترق نُصب لي فيه الفخ بسؤالٍ صعب: ماذا قرأت لنجيب محفوظ؟
في أولى المرّات لم أعلِّق، لكن بيني وبين نفسي أقمتُ حساباً عسيراً، إذ كيف للإنسان أن يُهمِل ذلك الأثر المتتابع والهدير المنتشر ذائع الصيت دائماً عن واحدٍ من كبار أئمة الكتابة؟ وهنا حضرني تساؤلٌ كبير: هل يمكن للإنسان أن يُضمَّ إلى جانب القراء والمثقفين دون أن يقرأ – ولو مرة – للنجيب؟
اكتفيت بلوم نفسي دون إجابة محددة على السؤال، لكنني بعدها قررتُ أنه لا يمكن تأخير القراءة لنجيب محفوظ أكثر من ذلك. عملتُ بعدها على تجميع ما استطعت من كتاباته والأعمال التي تتناولها، وحتى عن سيرته هو شخصياً، وكأنني أُصحح ما كان من سوءٍ بدر مني. أصبح في مكتبتي جزءٌ كامل يخص العم نجيب، به من النوادر والطبعات الأولى القديمة القليل، لكنه يكفيني.
للقراءة| أحمد المرسي يكتب: رحلتي مع نجيب محفوظ.. من خبر في التلفزيون إلى هوية
بعد تجميع عددٍ لا بأس به من مجمل أعمال النجيب وعنه، لم تتوقف أخطائي عند ما أسلفتُ مسبقاً، فعندما راودتني الرغبة في القراءة لنجيب محفوظ بدأت فوراً بـ”الحرافيش”. الجميع يعلم أن تلك النداهة عندما تدفعك إلى قراءة شيءٍ لن تستطيع أبداً تأجيل قراءته أو تأخيرها. حينها كنت أسمع وصفهم لها بالملحمة ولا أدري لماذا؟! عرفت فقط في اللحظة التالية لانتهائي من الرواية: الملحمة.
في طبعة الشروق، رواية “الحرافيش” تتعدى الستمائة صفحة، فما الذي يمكن أن يأخذ بألباب القارئ إلى عالمٍ قديمٍ متسلسلٍ لم يعش أبعاده إلا نجابة الأسلوب وإتقان السرد وحرفة الكتابة ومرونتها وجماليتها غير المعهودة؟! يومان فقط كان الوقت الذي عايشت فيه هذه الملحمة وخضت تفاصيلها. تلى ذلك إحساس عارم بالنشوة والحظوة والأسر من جمال هذا النص وبدائع تراتبيته وسلسلة قصصه.
يقول القارئ: إذاً أين الخطأ فيما ذكرت؟!.. الخطأ يا عزيزي أنني أُصبت بالخواء بعدها. عاهدت نفسي على النيل من هذه المتعة باستمرار كلما أنشدت جمالاً لا يخبو ونوراً لا يخفت. فكان فخِّي الآخر مع النجيب أن كل الأعمال لها جماليتها الخاصة، ولكنها ليست بمقدار الملاحم التي أجمع عليها الناس وأقروا جميعاً لذتها ومتعتها.
لم تنتهِ قراءاتي فيما جمعت من أعمال النجيب، لكنني مستمرٌ في البحث عن ملحمتي الخاصة التي أوقن أنها ستربطني به للأبد، كتذكارٍ مُترَّخ يُخلَّد في الزمان كوثيقةٍ جمعت بين رفيقين يهدي كل منهما الآخر إلى مبتغاه حتى يصل إلى طريقه.