“سوف أعترف لها بحبي”..
تكررت تلك الجملة اللعينة داخل رأسه مرارًا وتكرارًا، تكاد تراه في مشهد سريالي في أحد لوح مونيه أو لامبرانت، شاب يجلس مترقفصًا في غرفة المعيشة، ينظر لانعكاسه على المرآة الكبيرة بينما التلفاز أمامه وهناك نشرة أخبار عن إبادة جماعية وأزمات اقتصادية، لكنه لم يكن يرى شريط الأخبار بحق.
لم يلقِ بالًا لخبر مثل: رجل مبيعات يقتحم منزل سيدة ويذبحها ليسرق عشرين جنيهًا، ولا للخبر التالي: حرق عشرون طفلًا في غارة جوية. وبالتأكيد لم ينتبه في تلك اللحظة لحالة منشورات مواقع التواصل على هاتفه التي تتراوح ما بين أناس يرقصون شبه عراة وآخرون يصورون ملابسهم الداخلية وينشروها في تباهٍ. كل تلك أشياء ثانوية بالنسبة له في تلك اللحظة، العالم كله أمر ثانوي بالنسبة للعشاق، وفي حالتنا تلك فهو أمر غير مهم بالمرة لبلال. كان يكابح محركات التوتر بداخله التي تطلق هديرها الصاخب وينطلق نفير القطار ذي الفحم الذي سيحطم عظام قفصه الصدري ويدمّر كل شيء وصولًا لعقله. يهز بلال رأسه ويكرر بصوت خافت: “سوف أعترف لها بحبي”.
نعم، سيتصل بها، أتاه صوت يحدثه من داخل عقله: أليست تلك هي الحياة؟ لحظات فاصلة وخاطفة كتلك؟ لو لم تمتلك الشجاعة الكافية لفعل ما تريد ستقضي باقي حياتك قانطًا ومتسائلًا عن “ماذا لو؟”. كن شجاعًا يا صاح.
يقطب بلال جبينه وهو يبحث عن مصدر الصوت التخيلي، المرة الأولى – وربما الأخيرة – التي سمع فيها هذا الصوت المميز، وتلك النبرة، كانت في الابتدائية، عندما صفعه المعلم أمام تلاميذ الفصل، تتسع عيناه… في ذهول وعدم تصديق… وهو يرى كف المعلم المفتوح يتراجع للخلف… يلمح نظرات الصبية المتلهفين للصفعة… يسمع دقات قلبه، يا لقسوة هذا العالم ولامبالاته بالنسبة لطفل خجول وحساس كبلال، لا يتذكر سبب الصفعة…
ولا يعتقد أن هناك سبب حقيقي للمعلم كي يصفع تلميذًا…
لكن تلك الأشياء تحدث، كان يعتقد أنها تحدث للآخرين فحسب…
لكنه تعلم حقيقة اللعبة الخادعة والقاسية…
تلك الأشياء تحدث للجميع، يبتسم بعض الصبية…
بينما يتكفهر وجه المعلم، لماذا كل هذا الغضب؟ ليس بسبب بلال بالتأكيد…
ثم تهوى الصفعة، ويرتطم الكف العملاق بوجه الفتى…
طاك!
ثم يسود الظلام والهدوء، لقد اختفى الألم، والشعور بالإحراج والرغبة الحارقة في البكاء…
لقد اختفى كل شيء…
لم يعد في الفصل، والمعلم ليس أمامه… لقد سمع صاحب الصوت يقول له مبتسمًا: تعال تعال بسرعة، شنبو في المصيدة!
يرفع بلال عينيه الدامعتين، ويرى فؤاد المهندس أمامه، ربما لهذا التخيل علاقة بحقيقة أنه كان قد شاهد فيلم شنبو في المصيدة في الأمسية السابقة ليوم الصفعة أياه!
لا يعلم حقًا السبب، لكن خياله تحول لفؤاد المهندس…
ويقترب منه عمو فؤاد مبتسمًا ويكرر: لا تبك يا صغيري
ثم يمط عنقه ويرفع رأسه صائحًا بصوت مسرحي: شنبووووووو..
ويضحك بلال من وسط دموعه..
كان هذا منذ حوالي عشرين عامًا، لم يرَ عمو فؤاد منذ ذلك الحين…
لكنه يتحدث معه الآن، ورغمًا عنه يشعر بلال بسعادة لسماع هذا الصوت المألوف المفعم بالحياة…
ورغم توتره الجامح، ينصت الفتى العاشق لعمو فؤاد الذي يردف القول: أنت في العشرين من العمر، الحياة كلها تنتظرك، كل الفرص الجميلة… لا تكن خائفًا ومتوترًا كهذا…
يأخذ بلال نفسًا عميقًا ويبتسم لعمو فؤاد، الذي يقول له غامزًا: كررها من ورائي، أنا في العشرين من العمر، والحياة كلها تنتظرني، بكل فرصها الحلوة، ومحبوبتي حلوة، جميلة كمعزوفة موسيقية، حلوة المذاق كالأرز باللبن، ككل الحلوى والفاكهة، وأنا لن أضيع الفرصة أبدًا، والليلة ليلة فالانتاين..
ينتشي بلال ويهب واقفًا، ينظر لنفسه في المرآة ويقول بصوت عالٍ: أنا في العشرين من العمر، والحياة كلها تنتظرني… ومحبوبتي… آه يا لحلاوتها ويا لجمالها..
ببطء فتحت منة عينيها، كانت ترتدي فستانًا أبيض قصيرًا يكشف عن كتفيها وساقيها، ساقين شديدتي الجاذبية ويبرقان بشكل كافٍ لشاعر كي يقص قصيدة فوقهما، عظام ترقوتها يكادان يرقصان بينما هناك قلادة تتدلى من عنقها الجميل، شعرها معقوص للخلف، وملامح وجهها تكاد تكون رسمة من لوح الأغريق، يمكننا القول ببساطة أن الفتاة كانت شديدة الجمال!.. وقد بدت كملاك رقيق وهي ترتدي هذا الفستان..
أمامها تقبع ستارة حمراء عملاقة، مرسوم عليها قلب كبير وكلمة “فالانتاين” مخطوطة بحروف قرمزية أسفل القلب..
دق قلب منة..
تحركت الستارة وظهر حبيبها العاشق من خلفها..
دق قلب منة..
اقترب منها، وأحاطها بذراعيه..
تلاحمت أنفاسهم..
دق قلب منة..
وجهه يملأ الفراغ والأرجاء من حولها..
عينيها السوداويتن تحدقان به..
يديه على خصرها..
يدق قلبها!
يهمس لها: أنت من نوع الفتيات الذي يجب تقبيلهن، وبكثرة، وبواسطة رجل يجيد التقبيل..
يدق قلب منة! وترتجف… في هلع..
كل شيء يتلاحق داخل عقلها..
شعورها بأنها مراقبة..
لمحها لظل شخص يتحرك من المقعد الخلفي لسيارتها!
طعم المخدر..
يدق قلب منة في ذعر! وهي تحدق بهذا الرجل العجوز!.. عجوز ليست كلمة مناسبة للوصف، بدا لها كمومياء متحركة، رغم ضخامة جسده وبنيته، شعره الأبيض المتساقط وجلده المهترئ، أسنانه النخرة ورائحته الكريهة، ملابسه الرثة! لكن أكثر ما أثار رعبها كانت نظرة عينيه الزائغة تلك!..
وكأن الجنون كله قد تجسد في تلك النظرة!
أرادت الفتاة أن تبكي، تصرخ، ثم فهمت سبب عدم قدرتها لهذا…
عندما كشف عن العلبة الحمراء في يده، هدية الفالانتين..
قال بلال برقة: أنا في العشرين من العمر، الحياة كلها تنتظرني، بكل فرصها الحلوة، ومحبوبتي جميلة وحلوة المذاق كالفاكهة..
ثم صمت كأن يستمع لأحد ما يتحدث، قبل أن يضيف: من أجلك يا عمو فؤاد..
ونظرت الفتاة الملتاعة إلى يده، لهذا الكف العملاق وهو يفتح هدية الفالانتين..
الكف العملاق..
لا يوجد سبب حقًا لمعلم كي يصفع تلميذًا.
تلك الأشياء تحدث للآخرين فحسب.
لماذا كل هذا الغضب؟
الجنون… تلك النظرة الزائغة.
يهوي المعلم بكفه المفتوح ليصفع الصبي، بلال، ويدق عنق الطفل إثر الارتجاج ليخر صريعًا… كل شيء يدور بسرعة بعدها… المعلم في المصحة النفسية، الطبيب، اسمه هيكل، يفسر حالته: لقد تقمص شخصية الطفل بسبب متلازمة الذنب وعدم قدرته لمواجهة فداحة ما اقترفه، بل وبنى شخصية لفؤاد المهندس داخل عالم الطفل كذلك، هذا ليس برجل بالغ متقدم في العمر، هذا مجرد جسده فحسب، أما عقله وشخصيته فهي لبلال، ربما بعد عشرة أعوام يصبح شاب عشريني داخل جسد رجل في الستينات، حالة غريبة بحق، ربما يطلقوا سراحه يومًا ما، لكن للآن، هو في ضيافتنا!
يقترب بلال، من منة، ويهمس: سأعترف لك أخيرًا وأبوح… أنا..
ويرفع علبة الفالانتين، حيثما يستقر لسان منة المقطوع، وتتسع عيني الفتاة في ذعر، بينما بلال يكمل في رقة: أحبك..
ويدق قلب منة!