كفى بك شرًا أنك الآخر في رواية أحدهم، فالعدو هو كل من خالفنا في الجنسية واللون والدين والاتجاهات السياسية والنوع والسن.. قائمة تطول وتقصر بحسب انغلاق المجتمع أو انفتاحه، فعندما تراها تطال المحافظة والذوق الموسيقي أعلم أننا أمام حالة متقدمة من ضيق الروح والأفق.
أن توصم بالآخر في المجتمعات الطاردة للتنوع الثقافي هي الخطوة الأولى في سحب صفة الآدمية عنك Dehumanization تلك العملية التي تبدأ بجعل مصائب الآخر أفراحنا، وتتطور حتى تجعل من قتله خبرًا سعيدًا ثم مستحب ثم واجب.
ومن علامات استفحال هذه الظاهرة في مجتمعنا إنكارها وتصويرها كحالات فردية نادرة بينما يسبح الناس في بحور التسامح والتناغم. كما أن معالجة الحوادث الوحشية الناتجة عن تغريب الآخر وشيطنته لا تعالج كظاهرة بل كخطأ تم التعامل معه ومعاقبة الجاني، مما يزيد من التعامي عن الجذور المسببة لتلك الجرائم.
عندما بدأت مشروعي الروائي كنت منزعجًا من فكرة التغريب التي لا ينبئ تفاقمها بقرب زوالها. في بدايات القرن الماضي كانت مصر الكوزموبوليتانية تحوي مختلف الأعراق والملل والنحل، وكان لذلك أطيب الأثر على الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية والصناعية. ثم بدأت في أوائل الخمسينات باعتبار الآخر هو اليهودي حتى ولو كان مصريًا خالصًا لا يعرف سوى العربية لغة ولم يسافر خارج القطر المصري في حياته. ثم ارتفعت موجة التغريب لتطال طائفة تلو الأخرى حتى فقدت لوحة الموزاييك المبهرة ألوانها تدريجيًا ليسودها صفار الصحراء.
ولعل كتاب الصحفية لوسيت لينيادو: الرجل ذو البدلة الشاركسكين البيضاء توثيقًا لتلك المرحلة التي بدأت بتغريب عائلتها ومن على دينهم وجهود الدولة الحثيثة آنذاك لصهر الفاصل بين العدو والمواطن الذي تصادف اعتناقه ذات الديانة.
في فيلمه “السلطان والقديس” شرح أليكس كرونمر لنا كيف تمت شيطنة العرب في أوروبا لتجييش الحملات الصليبية. مسلطًا الضوء على الراهب فرانسيس (مؤسس رهبنة الفرنسيسكان) الذي سافر إلى الشرق مع إحدى تلك الحملات محملًا بنفس الأفكار.
ثم كيف نجح القديس في عقد معاهدة سلام مع السلطان الكامل الأيوبي بعد صراعات فكرية أعادت لكليهما النظرة الواقعية للآخر كإنسان وكفى.
وعلى الرغم من التأويلات المختلفة لتلك المعاهدة التي سلم فيها الكامل بيت المقدس للصليبيين بعد أعوام قليلة من تحريرها منهم على عمه صلاح الدين، إلا أنه يصعب إغفال تحولات فرانسيس والكامل من شيطنة الآخر إلى قبوله كنسخة مختلفة فحسب.
في روايتي الأولى “ما حدث في شنجن” وجدت في الصين ضالتي. إذ إننا نقف على مائة وثمانين درجة من مواطنيها من حيث اللغة والعقيدة والشكل والأكل والاتجاه السياسي والاقتصادي. فكرت في تسليط الضوء على الاختلافات والتشابه، على الإنسان الصيني ومشاعره، على مشاكله اليومية وعلى مقارنته بالمصري.
هل نحن فعلًا أفضل؟ هل مآثرنا التي نتشدق بها حقيقة؟ لتضعنا الرواية أمام بعض الحقائق التي تناسيناها لعقود رغم بديهيتها مثل آدمية الإنسان واختلاف الأخلاق عن الدين. بدأت بشنجن قاصدًا طرح هذان السؤالان علهم يدفعانا للتفكير ثانية في آدمية الآخر وأفضليتنا.
في تجربتي الثانية “باب الزوار” قصدت التسليط على آخر آخر، أكثر قربًا وشبهًا يشاركنا وحدة اللغة واللون والموروث الثقافي والتاريخي والجغرافي ومع هذا لم نتورع عن تغريبهم وشيطنتهم. اشتدت تبعية الناس للإعلام واندثر الفكر النقدي من العقول التي تركت آذانها للقنوات المختلفة تبث فيها ما تشاء. عزفت الأوركسترا لصالح فساد اتحاد السلطة ورأس المال. وأثمرت التجربة ما شهدناه من تقاتل بين الشقيقين على أرض السودان في مباراة كرة قدم. آلمني تطاول ممثلين ومطربين على شعب عاشرته لسنين وأكرم وفادتي.
فكانت باب الزوار هي ثانية أعمالي لتحكي لنا عن أوجاع سبقونا إليها عسى وحدة الألم تذكرنا بالمنسي من الأخوّة.
أعلم يقينًا أنه لا رواية واحدة ولا ألف قادرة على زعزعة شعورنا بالاستحقاق والتفوق دنيا وآخرة، أو في إحداهما على الأقل. لكن الركون لمقاعد المشاهدين أقل حتى من أضعف الإيمان.
أعتقد أن البعض ينحدر بسرعة شديدة موغلًا في التقوقع حول الذات مضخمين فوقية لا أصل له على أرض الواقع. تعالت نبرة الشماتة مؤخرًا في مصر، الفرح بالأعاصير الأمريكية وحرائق الغابات وإضرابات فرنسا وحرب روسيا وارتفاع أعداد الوفيات… كلها أعراض تنبئ بأن إنسانيتنا في تراجع، مجتمع ينغلق لداخله وتزداد حدة قصر نظره ليضع شروطًا شديدة القسوة لمن يعتمدهم كآدميين يستحقون التعاطف والحياة.
تذكرت مقطع للساخر الراحل جلال عامر: لقد خضت ثلاثة حروب ولم أجرح، لكنهم ضربوني في ندوة عن احترام الرأي الآخر. بالأمس شاهدت فيديو عن حادثة ألمت بدولة أوروبية بدأه المذيع: إنها تحترق لكن لا تتسرعوا بالفرحة. كان يدعو الناس للتمهل لأن (بحسب روايته) احتراقها سيكلفنا إعادة إعمارها. وناهيك عن افتراضه لقدرتنا المادية أو المعرفية الكافية لإعادة إعمار أوروبا كما توهم المذيع، لفت نظري دعوته للمشاهد المصري للتمهل قبل الشماتة كأنها من نافلة القول.
وإن كان لنا من هذا التكهف مخرجًا فهو الفنون بأنواعها، لنكتب أملًا في أن تتسع العقول والقلوب والأبصار لتحوي المخالف والموافق، لنحلم باختفاء كلمه الآخر من مفرداتنا، لنحكي عنه علنا نفتح أعيننا لنرى أننا لسنا سوى الآخر في عيون الآخر.
أحلم بلحظة كنهاية فيلم The others (الآخرون) عندما أدركنا جميعًا بغتة أن من ظنناه الآخر لم يكن هو. لحظة تنوير تنزع صفة الآخر عن الجميع وتوحد صفوفنا خلف الإنسانية متقبلين الاختلافات والعيوب، مؤمنين بما قاله الأبنودي في تتر مسلسل أبو العلا البشري:
كل اللي عايشين من بشر من حقهم
يقفوا ويكملوا
يمشوا ويتكعبلوا
ويتوهوا أو يوصلوا