نقلا عن المصري اليوم
لعل المتابع لمسيرة الروائي المصري عمرو حسين، المتوّج مؤخرًا بجائزة غسان كنفانى للرواية العربية عن روايته «الديناصور»، يدرك أنه مهموم، كأغلب أبناء جيله، بالنظر إلى الوراء، بمطالعة أطلال الماضى وحساب الخسائر واستشراف المكاسب الآتية إن وجدت. كما أن من يتأمل المنتج الروائي لعمرو حسين بمنأى عن اسم الكاتب، يلاحظ تطوّرًا ملموسًا وجهدًا حثيثًا بذله الكاتب بغية تطوير أدواته وتنويع تقنيّاته، وهو أمر لم يكن ليتحقق من دون عاملين أساسيين، العزيمة، والقراءة. لهذا فكاتب هذه الكلمات يكاد يجزم – وهو الذى لم يلتق بعمرو حسين من قبل- أنه أمام كاتب هو بالأساس قارئ نهم، يقرأ من النصوص الأدبية ما استطاع إليه السبيل.
فى روايته الأولى (الرهان- 2012)، رصد عمرو حسين أحداثًا تبدو آنية، لكنها كانت نتاج سنوات من القهر والفساد والشعور بعدم الانتماء سوى إلى الفرديّة التى كادت تودى بمصر إلى هاوية الشتات والشقاق. نظر عمرو حسين إلى 2011 وما سبقها، لكن نظرته هذه، وعلى الرغم من كونها عجولة بصفتها الرواية الأولى للكاتب، فقد راهن من خلالها على جيل قادم قادر على تغيير خرائط الانتماء الشائهة فى عقول الغالبية من الشباب.
عقب ذلك قدم كاتبنا روايته الثانية (تاهيتى- 2017). وفيها عاود عمرو حسين النبش فى تاريخ منسى على الرغم من حداثته، مُتقصيًا أثر لوحة فان جوخ المسروقة «زهرة الخشخاش»، لكنه قدم ذلك من خلال حالة أدبية متقنة من التماهى بين الواقعى والمتخيّل. فى هذه الرواية تجلّت ملامح التطوّر الذى ذكرته منذ بضعة أسطر، خصوصًا على صعيد اللغة، ومن حيث مسار الحبكة والتمهيد الأكثر إتقانًا لنهاية النص.
ثم جاءت رواية (الديناصور- 2021)، والتى سأخصص لها المساحة الأكبر فى كتابتى هذه، ليس فقط من باب الاحتفاء بفوزها بجائزة كنفانى، لكن لكونها أقرب نصوص الكاتب إلى قلب كاتب هذه الكلمات. لكن تسليط الضوء على ديناصور عمرو حسين لا يستلزم بالتبعيّة إغفال النصّ الأحدث صدورًا للكاتب (خارج نطاق الخدمة- 2023)، وهو نص يمثّل عزفًا على وترٍ مختلف، وغزلًا على نولٍ جديد آثر الكاتب تجربته، وأرى أنه أفلح فى مغامرته، فجاء نصّه كاستجواب مثير للماضى القريب، وخلخلة محسوبة للأستار الواهية التى تفصل بين حياتين يعيشها كل منّا، حياة أولى يرصدها العقل الواعى، وحياة موازية يبثها العقل الباطن إبان السبات. هنا نظر عمرو حسين مجددًا إلى الوراء لينسج حكايته على أسبوع واحد بات يستقر خانة الماضى، لكنه يُحدث اشتباكًا بين الماضى والمضارع لتتبلور حبكة الحكاية كلها على ضفاف الخط الشاحب بين ما حدث وما لم يحدث.
وإن كانت (خارج نطاق الخدمة) تمثّل تطوّرا آخرَ فى مسيرة الكاتب، إلا أن حالة الحنين التى خلّفتها الديناصور لدى قطاع عريض من القراء، تضعها فى مكان محفوظ بين أرفف القراء، حتى اليوم.
فماذا عن الديناصور؟ أهى قصّة عن صراع عجوزٍ مع زمن لا يألف كلاهما الآخر، أم هى ترصد صراع العقل مع القلب حيال لحظات قد يستغرق تحويلها من طور المحسوس إلى المنطوق عمرًا بأكمله؟ إجابة عن هذا السؤال تنتمى إلى الإجابات التى يضع الكاتب أول أقواسها، ثم يترك للقارئ وضع القوس الأخير حيثما شاء.
الأسلوب اللغوى فى الديناصور ينتمى إلى مدرسة السهل الممتنع، ويعتمد تقنية بوليفونيّة ترتكز على تعدد الرواة وتنهض فى بنيتها على تنوع الأساليب، واستعمال فضاء العتبات عبر حسن توظيف عنصرى الزمان والمكان. يقدم عمرو حسين هنا نصًّا يفيض بالمشاعر، يتبلور فيه الثمن الذى قد ينفقه المرء أمام لحظات التردّد، والعمر الذى – ربما- يهدره أمام حوائط الكتمان.
كثيرة ومتنوعة ثيمات هذه الرواية، فهذا النص يبكى أثر الوحدة، ويتقصّى أثرها على الآباء، ويرصد هشاشة القلب عندما تتراكم فى حجراته الصور المقرونة بالفقد، والعامرة بخطوط سوداء تميل من قمم الأمل إلى سفوح الواقع. يكتب عمرو حسين عن كل هذه المشاعر ونقائضها، فيستنهض ديناصوره الراقد أسفل أنقاض الغياب، ليروى، ويشاركه الآخرون الحكاية، حتى تلتئم شظايا المرآة المهشمة، وتنجلى الصورة بين جيلين، بين حكايتين، وبين لسانين معقودين على السكوت، وشفاه مطبقة على الخوف.
تنفرط حبات العمر بين سطور حكايتين، حكاية أولى يتبوّأ منصّتها السرديّة ويتحكم فى خيوطها سبعينىّ أرمل ووحيد، يُمرّر ما بقى من أيامه فى محاولات كتابة أولى، بيد أن كتابته المتأخرة تفاجئه إذ تُفجّر ينابيع الحكايات المختزنة فى قلب هرِمٍ مهزومٍ بإرادته. تتبلور هنا صورة أدبية واضحة للتحرّر/ التطهّر من خلال الكتابة، إذ يكتب العجوز كأنه تقمّص شخصيّة هاجر يوم صرخت فى بئرها «زمّى زمّى»، فيفيض كما البئر، ليرمّم أسباب للبقاء.
تتقاطع حكاية العجوز مع فتاة عصريّة تنتمى إلى زمنٍ غريبٍ لا يعرفه العجوز، وشاب فنّان يحبُّ الفتاة وتجفّ الكلمات فوق شفتيه، فلا يبتعد، ولا يبوح. هكذا نعاين فى رفقة العجوز الكسير ومرافقيه أطلال زمان انقرضت معالمه، نحسب الخسارات، نضع أيدينا على نقاط التماس التى يحفرها الخوف وتجمّلها أشباح التردد، فلا نجاهد دمعًا يطرق أبواب الجفون.
المعادى هى المسرح المكانى، لكن معالم الانقراض ظاهرة فى كل أرجاء الأرض، ومحاولات الاتصال بين العالمين تشى باتساع الفجوة، لكنها تثبت إمكانية تحقق تلاقٍ مشروط بحرص الجيلين على إيجاد أرض مشتركة، وخلق مساحة صالحة للتفاهم. تنبثق الحكايات من أوراق العجوز، فلا نقدر سوى أن نرثى الحلاق العجوز فى وداعيّته المهيبة، وأن نحث الخطو الجاد خلف ظل العجوز بغية العثور على طيف حبيبةٍ فارقت بينه وبينها ثوانٍ تمدّدت حتى ابتلعت خمسين سنة من عمره.
وهنا يتفجّر السؤال: عندما تتلاقى الأجيال، هل يستطيع الجيل الشاب أن يتفادى خطايا الماضى التى ارتكبها الجدود؟ سؤال مفصلى اختزلته الحكاية فى إعلان الغرام، إلا أنه يتسع لعشرات التأويلات لخطايا لانزال نسددها حتى اليوم.
يُضمّن عمرو حسين إجابته فى طيّات سرديّته، فيقول فيما وراء السطور: وقتما يلتحم الماضى بالحاضر، ويتوقف كلاهما عن إنكار الآخر، يتحقق التواصل بين الأجيال، وتترسخ الاستفادة من تجارب الأمس. هكذا يتواصل العجوز مع أحفاده المهاجرين، ويبوح لهم بمخزون ذكرياته التى حرص على استبقائها طى الكتمان، ويتعلم الشاب الدرس من صفحات العجوز، فيشهر رايات الهوى، ويتبادل مواثيق الغرام مع فتاته الحائرة بين نداءات القلب ومغريات العصر التكنولوجى، وأحلام النجاح والثراء السريع.
تأتى نهاية الديناصور هادئة يختتم بها الكاتب فصولًا لا ريب أن القارئ قد لهث بين سطورها شغفًا ورجاءً، لكن الكاتب ينتصر للنهاية الأكثر اتساقًا بالواقع، فالمحبوبة باقية، حيّة تُعشق، أقرب مما نتصوّر، وأبعد من النوال.
استمتعتُ كثيرًا بقصة العجوز الذى يتحرر من عقود الخوف فوق صفحات بيضاء، وبحكاية الفنان الذى تأرجح كثيرًا بين الصد والرد، وبالفتاة على الرغم من رغبتها – كشأن جيلها- فى الاستحواذ على كل شىء من دون الالتزام بالعهود. أحببت عبقرية العنوان لما حمله من رمزيّة، حدّ أننى كنت أفضل لو لم يُذكر لفظ الديناصور مرة واحدة خلال الرواية، بحيث تبقى دلاليته كافية سهلة الاستنباط.
الديناصور حالة شجن متقّدة، يختلط فى أتونها العشق بالنوستالجيا، وعبد الحليم حافظ، والمعادى، والبوح المؤجل، والرغبة المتأخرة فى التحرر من قيد الأمس من خلال الحبر والورق، رصد دافئ للأبوّة، حسّ فكاهى واضح، تنافر وتجاذب بين الأجيال، فرح مكتوم وشغف مخبوء، ثم راية غرام خفّاقة تعلن أن الحب، والحب فقط، ليس عرضة للانقراض. فالديناصورات نفسها، ربما كانت لتعيش حتى اليوم، لو استعارت من قلب العجوز حكاية غرامه المستمرة بقوة الكبح الذاتى، لا تخبو، ولا تخفت، ولا يغرب فيها وهج القلوب، ربما لا تتقدم، لكنها لا تنقرض.
لقد ارتبطتُ بشخوص هذه الحكاية، حدّ شعورى بأن هذا العجوز العاشق سوف يقفز أمام عينيّىّ ممسكًا بأوراقه كلما ظهر الديناصور على شاشات قنوات الأفلام الخياليّة، والكارتون، وأفلام ناشيونال جيوجرافيك الوثائقية، التى تقطع، بمنتهى القسوة، أن الديناصورات التى تستعرض حفريّاتها، انقرضت لأنها- فقط- لم تعرف الحبّ. فهل نحن اليوم بمنأى عن هذا المصير؟!
نهاية، هذه رواية أحب أن أكتب عنها، لكاتب أشاطره شهوة نبش الماضى والبحث عن أطلال الأحلام القديمة، يخوض معركة مستمرة من الأمس غير الموثّق فى عبثيّات المؤرخّين، مهتمٌ بالماضى العادى للشخوص العاديّة، التى هى حتمًا أهم وأكثر تأثيرًا من مشاهير خلّدهم المؤرخون. معركتك مع الزمن ليست دون كيشوتيّة يا عمرو فلا تجزع، إذ هى واجب مقدّس يتوجّب علينا جميعًا ألا نغفله.