إن عادت الحياة إلى هذا الرجل فإن أول ما يصنعه هو تقبيل قدمي الخديوي إسماعيل؛ ليلغي تسمية أحد الشوارع باسمه إنقاذا لسمعته.
ما يعلمه السواد الأعظم من الجماهير أن “كلوت بك” هو شارع قديم في منطقة الأزبكية يمتد حاليا من منطقة محطة رمسيس حتى ميدان العتبة شاهدا على بداية فترة زمنية كانت تحاول فيها مصر أن تغير عباءتها من الدولة العثمانية إلى الأسرة العلوية، والشخصية تعود إلى طبيب فرنسي اسمه “أنطوان بارتيليمي كلوت” والمعروف باسم “كلوت بك” أحد أهم أطباء العصر الحديث ومؤسس مدرسة القصر العيني في عهد محمد علي والذي عهد إليه بتنظيم الإدارة الصحية للجيش المصري وصار رئيسا لأطباء الجيش، ثم أقنع محمد علي بافتتاح مدرسة للطب وتولى إدارتها في أبي زعبل ثم انتقلت إلى القصر العيني، قاوم الطاعون الذي ضرب البلاد عام 1830، كان أكثر ما يخشاه هو انتقال الأمراض والأوبئة بين الناس لذا كان عدوا لكافة أشكال ممارسة أفعال الفحش وممارسة الرذيلة ليس لأنه راهب بل لأنها ببساطة ناقلة للأمراض التي يقاومها.
نرشح لك: محمد عبد العال الخطيب يكتب: خلف المنصة (6).. مصر بين قرش أحمد حسين وقرش الغردقة
هذا الشارع هو المثال الأوضح على سخرية القدر، وتطور جريمة الفحش في مصر، هذا الطريق كان مليئا بتجار الحبوب والغلال، فلما جاءت الحملة الفرنسية، اتخذت من الطريق مستقرا لجنودها، حتى يكونوا على مقربة من مصادر التمويل الغذائي لهم، ونظرا لتعاملهم الفج مع التجار؛ هجروا الطريق، واستقر بدلا منهم، محال العوالم، والمشخصاتية، والفنادق، ومحال القمار، وبائعات الهوى؛ لخدمة جنود الحملة التي قننت أوضاعهم، ورحبت بهم، حتى أن العاهرات الأجنبيات تجاوز عددهن ألفي عاهرة، أصبح هذا الشارع رمزا ومستقرا لهم رغم أن صاحبه -كلوت بك- هو عدوهم الأول!!
حمى تلك التجارة البلطجية أو ما كان يطلق عليهم الفتوات الذين لا يتحدثون -في أغلبهم- إلا بلغة القوة حتى أصدرت الحكومة قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937 في 31/7/1937 ونصت المادة 375 مكرر منه على عقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة لكل من قام بنفسه أو بواسطة الغير باستعراض القوة أو التلويح بالعنف أو التهديد بإيهما بقصد ترويعه أو التخويف بإلحاق أي أذى مادي أو معنوي به أو التأثير في إرادته لفرض السطوة عليه أو إرغامه على القيام بعمل أو الامتناع عنه، ولأن النصوص لا تنفصل أبدا عن الأحداث المعاصرة لها فقد جاء هذا النص عقب مقتل الراقصة امتثال راقصة كازينو البوسفور على أحد البلطجية حينما رفضت دفع الإتاوة له.
في تلك الفترة كانت مصر خاضعة للاحتلال الإنجليزي الذي كانت الامتيازات الأجنبية لا زالت تضرب بقوتها في أركان المجتمع، أذكر لكم حادثة تظهر مدى غرابة الأمر -ذكرت بكتاب التاريخ السري للمجتمع المصري- ففي أحد الأيام أقتحم رجال البوليس أحد منازل ممارسة الدعارة فواجهته صاحبة المنزل بأنها تتمتع بالجنسية اليونانية مما يفرض على البوليس ضرورة إبلاغ القنصل اليوناني والحصول على موافقته، وعند عودة أفراد الشرطة إلى ذات المنزل أبرزت لهم جنسيتها الإيطالية وهو ما استوجب عودتهم إلى القنصل الإيطالي وهكذا.
من الخطأ الاعتقاد أن تلك الجريمة هي مجرد ظاهرة اجتماعية نتناول أسبابها اجتماعيا دون الأسباب السياسية التي أدت لتكاثرها وتناميها في كثير من الأحوال، فليس المثال السابق فقط بل إن نصوص قانون العقوبات المستوحى من القانون الفرنسي التي احتوت مواده طرق مواجهة جرائم الدعارة والفحش والأدلة على قيامها وهي المادة 276 فكانت روح أيادي المشرعين الأجانب تحوم في تلابيب النص ولو ذكرت الشريعة الإسلامية في قلب النص، فكانت المادة تنص على أنه “الأدلة التي تقبل وتكون حجة على المتهم بالزنا هي القبض عليه حين تلبسه بالفعل، أو اعترافه، أو وجود مكاتب أو أوراق أخرى مكتوبة منه، أو وجوده في منزل مسلم في المحل المخصص للحريم”.
مفاد ذلك أن الأدلة الصريحة التي تقبل أمام المحكمة كدليل على المتهم بالزنا أن يتواجد شخص في المكان المخصص للحريم في منزل رجل مسلم، فأراد المشرع الأجنبي في ظاهر النص الحفاظ على التقاليد السائدة في مصر فذكروا الإسلام (منزل مسلم) وهو ما يعطي الإيحاء بمحاولتهم الحفاظ على تقاليد المجتمع.
ولكن أتدرون ما حدث؟ أرجع بالخلف بضعة أسطر في ذلك المقال لتدرك ما حدث، نعم دقق في السطور، لقد ضربوا المجتمع بقذيفة مدفع، فنفوا الفعل والدليل في كل منازل الدعارة التي يديرها الأجانب أو لمن لا يتمتع بعقيدة الإسلام، لقد كان المجتمع المصري مجتمعا مليئا بالجنسيات والعقائد المختلفة، استخدموا شعارا نبيلا لكن نيتهم لم تخلص في استخدامه.
ومع معالجة النصوص لجريمة البلطجة المحرض الأول على ممارسة الدعارة (للنساء) والفجور (للرجال) أصدرت الدولة القانون رقم 68 لسنة 1951 بشأن مكافحة الدعارة ونصت مادته الأولى على عقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة من مائة إلى ثلاثمائة جنيه لكل من حرض شخص على ارتكاب الفجور أو الدعارة.
وكما ذكرنا فإن النصوص لا تنفصل أبدا عن الأحداث التي تحيط بها فقط أعلنت مصر وسوريا الوحدة فصدر القانون رقم 10 لسنة 1961 في شأن مكافحة الدعارة ونص على عقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على ثلاث سنوات وبغرامة من مائة جنيه إلى ثلاثمائة جنيه كل من حرض شخصا ذكرا كان أو أنثى على ارتكاب الفجور أو الدعارة أو ساعده على ذلك أو سهله له، وكذلك كل من استخدمه أو استدرجه أو أغواه بقصد ارتكاب الفجور أو الدعارة.
كلوت بك كان شارعا تتنوع فيه بيوت الفحش فيعالج الشخص هواه ونزعاته بإحدى منازله، كان مقر الجريمة معروفا ويكاد أن يكون محصورا لدى البوليس المصري فمنطقة الأزبكية أو “وش البركة” كانت أشهرها إلى جانب بعض الأماكن الأخرى كالعتبة، أما الآن فإن الجريمة ترتكب بضغطة زر واحدة على أحد الهواتف وأنت في منزلك لتكون فاعلا أصليا في جريمة، فمع سهولة ارتكاب الجريمة بسبب التطور التكنولوجي السريع، حاول المشرع أن يواجه ذلك ولكن أراه قد تعثر كثيرا في ذلك فلقد تعددت التشريعات وتاهت العقوبات بين العديد من النصوص.
فبضغطة الزر على هاتفك قد تتعرض لعقوبة نشر أخبار كاذبة أو مشاركة منشور يحتوي على سب وقذف، ورغم أن الجريمة قد ترتكب بإي ركن من أركان منزلك، إلا إننا نستدعى عند إتيان أحد هذه الأفعال الشائنة صورة واحدة ، “شارع كلوت بك”؛ فصار ضحية كل العصور.