نقلا عن “الاقتصادية“
ماذا لو جلس مليار شخص في مكان واحد، يتعرضون لشتى أنواع الأخبار والاختبارات والمواقف والآراء والتحديات، هذا ما يختبره كتاب “مدينة المليار رأي”، الذي يحلل الأمراض الرقمية وشهوة وجهات النظر، ما الذي حدث وكيف ننجو منها؟
بلغة سهلة ورشيقة، يخوض بنا مؤلفه الكاتب والصحافي والناقد الفني محمد عبدالرحمن، في المثال تلو الآخر، في كتاب ماتع وثري، يقرأ تفاصيل المشهد الحالي الذي يتحكم في مصائرنا وقراراتنا ونظرتنا إلى الأمور، ليدرك القارئ إلى أي مدى صرنا تحت رحمة العالم الافتراضي، مع إدراك الطريق الذي يقودنا إليه والنجاة منه.
لسنا قرية صغيرة فحسب
في مقاربة للواقع، يرى عبدالرحمن أن تأثير الميديا ووسائل التواصل صار كبيرا بشكل جلي في الأعوام الأخيرة، وهذا التأثير ليس جيدا أو سيئا في مجمله، وإنما يتخلله بعض المنافع وكثير من الأضرار، مفندا في كتابه ظواهر عدة لم تكن لتنشأ لولا وجود وسائل التواصل الافتراضية، التي تسببت في تكون شخصيات زائفة من حولنا، وآراء لا أساس لها سوى نشوب الصراعات وإيجاد الفتن والخلافات المستمرة.
في مقدمة مشبعة بتصوير الواقع، يرى الكاتب أن العالم لم يعد قرية صغيرة، كما قال مارشال ماكلوهان، بل بات “شاشة صغيرة” حجمها ثابت، لكنها منتشرة بين أيادي الملايين، كل منهم افتراضيا يقف بمفرده معزولا عن الآخرين، لكن واقعيا كلنا مرتبطون ببعضنا، نتأثر بما يجري حولنا سلبا وإيجابا، وإن كانت السلبيات لا تعد ولا تحصى، فيما الإيجابيات تتضاءل يوما بعد الآخر.
للقراءة| شريف سامي يكتب: “واحترقت أوراق القضية”.. محاولة إنعاش للذاكرة المُغتالة!
أمراض رقمية
الكتاب الصادر حديثا عن دار دون، يقف في كل فصل من فصوله أمام “مرض رقمي” سببته منصات التواصل، يحلل ملامحه الحالية، وكيف أسهمت تلك المنصات في انتشاره كجائحة ممتدة، لكنها جائحة متعددة الفيروسات، بحيث لو أفلت الإنسان من الأول دهمه الثاني، ولاحقه الثالث، وهكذا، إلى ما لا نهاية.
“الأمراض الرقمية” كما يسميها محمد عبدالرحمن هي في طبيعتها أمراض قديمة قدم التواصل الإنساني، لكن المتغير الذي يرصده هو حجم الاستفحال وصعوبة الحصول على علاج.
ومن أول الأمراض التي يتعرض لها هو “الاجتزاء” الذي لم ينج منه أي نص، حتى المقدس، ويعنى به الحصول على معلومات غير مكتملة، وعدم الاطلاع على سياق الشيء كاملا، وهو مرض ثقافي واجتماعي متوطن في كل المجتمعات، ومشكلته تكمن في شيوع المعرفة المنقوصة، ومنها الحكم والمواعظ والأقوال المأثورة وتنسب إلى مؤلفين مشاهير، بينما هي وردت على ألسنة شخصيات روائية وفي سياق محدد لا يمكن تفهمه إلا كاملا، مثل أن يفتح أحدهم رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، ويأخذ عبارة “الخوف لا يمنع الموت، الخوف يمنع الحياة”، وينشرها ويشاركها آلاف الناس وهم لا يعرفون أن محفوظ لم يقلها، وإنما وردت على لسان شخصية روائية متخيلة.
ومن مظاهرها، أداة التقييم في “جوجل”، فتجد كل من ذهب إلى مكان وتعرض لموقف سلبي يقيمه بالكامل سلبيا، أو الترويج لفيلم يعاني بطء الإيقاع وعدم اكتمال الشخصيات، فيتم الترويج لمشاهد مجتزأة منه مستواها الفني أفضل، فيصبح العمل كله جيدا على غير الحقيقة.
ويطالب الكاتب في هذا السياق بأن يرهق القارئ نفسه للوصول إلى أكبر قدر من الحقيقة لترى الصورة شبه مكتملة، وتظل لديك مساحة من الشك تجعلك تكمل البحث كل فترة حتى تضمن أنك على الطريق الصحيح، لأن من مظاهر الاجتزاء تثبيت صورة إيجابية أو سلبية.
أخطر الأمراض
“التوهم” هو مرض رقمي آخر يقصد به الاعتقادات الخاطئة القائمة على نقص في الإدراك، مثل توهم العدائية من المجتمع والمستخدمين الافتراضيين، وتوهم الأهمية الذي يحول صاحبه إلى شخص مزعج، يرى إنتاجه يستحق الاحتفاء المستمر، ويرى عدم التفاعل نوعا من الإهانة قد يقاطعك من أجلها للأبد، والاستماتة من أجل الحصول على توثيق العلامة الزرقاء، والحصول على مكانة اجتماعية مزيفة.
ومن التوهم إلى “الفراغ”، أخطر الأمراض الرقمية على الإطلاق، لافتا إلى أن هناك أشخاصا يكتبون محتوى متنافرا وغير مرتبط بوظائفهم وخبراتهم ودراساتهم، يفرطون في الظهور على منصات التواصل بمحتوى غير مهني وبمحتوى غير متحقق منه، وإهدار وقت هائل على تلك المنصات.
أما مرض “الماضوية”، فيشير إلى تكرار أي قضية جدلية ومناقشتها من الزاوية نفسها، والتفكير في الأمس فقط، مثل التراشق اللفظي بين الأندية، وقضايا الحجاب والسفور، وتفضيل الصيف أم الشتاء، التي تؤكد بشكل أو بآخر على فراغ الحاضر وانعدام المستقبل، مستدلا بما يسمى “مسلسلات الزمن الجميل”، خصوصا مسلسل “لن أعيش في جلباب أبي”، الذي يحتفى بإعادته كل مرة وكأننا في قلب أسطوانة مشروخة، لا نمل من تكرار ما تحتويه، وكأنه لا يوجد لدينا شيء آخر لنفعله، ويمكن أن نصفه بأنه رغبة متكررة في الهروب إلى ماض كان يمثل بالنسبة لنا أياما أفضل.
وتصل “الماضوية” بالغارقين فيها إلى تقديس الأفكار والتقاليد، حتى المعلومات، خصوصا المغلوطة منها، داعيا إلى الانتباه إلى الحاضر، وسعة الإدراك في التعامل مع هذه الأمراض.
بئر سحيقة من السطحية
يحاول كتاب “مدينة المليار رأي” تحليل طبيعة الشخصيات التي ظهرت على سطح الميديا وتربعت على عرشها، ويصل إلى تحليل منطقي لفهم طبيعة الإنسان وحاجته إلى مواكبة الرائج، وهجر الفطري والمألوف، خوفا من عدم اللحاق بالركب السائر، ويضعنا أمام حقائق صارت تشكل واقعنا اليومي وتحتل حياتنا بشكل غير مسبوق.
التسطيح والتبسيط المفرط المخل للقضايا، أحد الأمراض الرقمية، ومن وجوهه تنميط القضايا الكبرى في صور وعبارات يتجمد عندها الزمن، فيحفظها الناس ويتناقلونها دون دراية، مثل اختصار القضية الفلسطينية ببيع مواطنين لأراضيهم، والتي تمر كمعلومات مجتزئة دون فلترة، بعد أن أغرقتنا التكنولوجيا في بئر سحيقة من السطحية والتسطيح والتبسيط المخل.
صاحب “الكتاب صفر” الذي يتناول كواليس العمل الصحافي، وكذلك كتاب “فلسفة البلوك”، يخوض بنا إلى ظاهرة “الانسلاخ” الثقافية، وخروج الإنسان عن ذاته وهويته وجذوره، متناولا إحدى أهم القضايا الثقافية في هذا الإطار خلال 2022، وهي قضية أغلفة كتب نجيب محفوظ في طبعتها الأحدث، التي جاءت لتؤكد انسلاخ هذا الجيل من الفنانين عن هويتهم.
الانتحال مرض يوثقه الكتاب، مثل انتحال أحدهم نص الآخر، وسرقة الفيديوهات والأغنيات، وانتحال المبادئ والأفكار، وصولا إلى الانتحال الوظيفي والأكاديمي، معرجا بنا إلى “التبخر” والثرثرة الرقمية المفرطة التي لا يبقى منها شيء في ذاكرتنا، فنخرج بلا شيء فعليا.
المدرك الواعي دواء نفسه
في حديثه عن “التقنع”، يتناول الكاتب في تحليله حالات انفصام الشخصية على منصات التواصل الاجتماعي، والقناع الذي يقدم به البعض نفسه للعالم، لحماية “الأنا” من الانطباعات السلبية، والتكيف مع العالم والانتماء للمجتمع، محذرا من البقاء طويلا تحت القناع الذي يؤدي إلى فقدان مفهوم الذات الحقيقية.
ويؤكد عبدالرحمن أن الحل ليس بتقليل عدد ساعات التعرض لمنصات التواصل الاجتماعي، لكن “الاعتدال” هو الوصف الأقرب، الاعتدال الرقمي، ناصحا بالوجود المنظم على أي تطبيق، وألا يتخطى عدد ساعات استخدام الهاتف الذكي نصف ساعات يومك مثلا، فهو مؤشر خطير، إضافة إلى العودة إلى نشاطات تركناها بسبب الغرق في تسونامي رقمية.
محمد عبدالرحمن هو كاتب له عديد من المقالات في تحليل تأثير مواقع التواصل الاجتماعي في الرأي العام، وقدم ورشا ودورات تدريبية في الصحافة الرقمية، ويصل بنا إلى حقيقة مفادها أن الكتاب لا يضمن معرفة القارئ بكل الأمراض الرقمية الحالية، فقد يظهر الجديد منها وهو يقرأ الكتاب، لكنه سيتعامل مع جديدها كما قديمها، لأن بداية العلاج أن يدرك الإنسان كنه المرض، وبعدها لن يهزمه هذا المجهول مهما فعل وناور، لأن الإنسان المدرك الواعي -على حد تعبيره- يصبح في هذه الحالة دواء نفسه.