الجمعة, نوفمبر 22, 2024
Dawen APP
الرئيسيةمقالاتنجوان ماهر تكتب: حكايتي مع نجيب محفوظ

نجوان ماهر تكتب: حكايتي مع نجيب محفوظ

هذا الشهر تحل ذكرى وفاة الأديب الملهم نجيب محفوظ، الذي سيظل حاضرًا في قلوب وعقول قرائه والجذر الراسخ الضارب في عمق الثقافة المصرية بما له من تأثير عظيم في أجيال كثيرة، وكأنه إرث ينتقل تلقائيًا فيما بينهم. بداياتي معه وأنا صغيرة في السن بدأت بمشاهدة الأفلام السينمائية مع عائلتي، وخاصة الثلاثية، لكنني كنت أحب “بين القصرين” أكثر، وكذلك “ثرثرة فوق النيل”، “القاهرة ثلاثين”، “زقاق المدق” وغيرها من الأفلام على قناتي التلفزيون الأولى والثانية، فلم تكن القنوات الفضائية قد ظهرت بعد.

عند بدايتي لقراءة أول عمل له، لم تكن الثلاثية كما هو متعارف بين القراء، ولكنني بدأت بـ”خان الخليلي” ولا أعلم لذلك سببًا سوى فضول طفلة صغيرة. بعدها قرأت “أولاد حارتنا”؛ فقد كانت مكتبة جدي، رحمه الله، زاخرة بكل أنواع الكتب والمجلدات والأعداد القديمة من المجلات والجرائد، وفضول الطفلة جعلني أتشبث بهذه الرفوف، أنزل ما فيها، وأجلس على الأرض بجانب أكوام منها. كانت جدتي، رحمها الله، تمر بي وتتركني وشأني. كانت أمي تخاف أن أنزع الأغلفة أو أرسم بالألوان داخل الكتب، وتنهرني بعدم الاقتراب، لكن حدس جدتي كان يطمئنها بأنني لن أفعل طالما كنت أرتب، وأجلس أقرأ، وأقلب الصفحات بتروٍ، وأسأل كثيرًا، وأستمع أكثر عن حياة السابقين بفضول الطفلة، فلم أكن لأهمل شيئًا.

للقراءة| عصام الزيات يكتب: نجيب محفوظ استخلاص الإبداع من الملل المنظم لا الشغف الفوضوي

نعود إلى نجيب محفوظ؛ عندما قرأت “أولاد حارتنا” في نسختها القديمة، لم أفهم الإسقاط وقتها، ولكن الرواية أعجبتني. قيل لي بعدها من أحد الأقارب كبار السن والمخضرمين في القراءة: “اقرئي روايات محفوظ أكثر من مرة لتكتشفي أسرارًا وراءها وكأنها قراءة جديدة تمامًا.” وهذا ما فعلته بناءً على هذه النصيحة مع “أولاد حارتنا”، كلما قرأتها تفهمت عمق الرواية وما وراء الإسقاط، وكذلك “الحرافيش”. عند الانتهاء من قراءتها على مدار أعوام، كنت أغلقها وأقول: “رواية غريبة”.

وكانت آخر قراءة لها في 2023، لا أدري ماذا أصابني هذه المرة من الرواية، وكأن مسًا أو سهمًا أُطلق من مجهول فأصاب مكامن من نور. ظللت مستيقظة وكان النوم يغالبني بقسوة، وأنا أنتصر عليه لأكمل الرواية وأجهز عليها وكأنني أفك طلسمًا ما وأغترف من أسرارها. عند بداية قراءتي لها، كان هناك شعور يداهمني بالراحة، شيء بداخلي يكنس وينفض ويرمي كل ما يزيد الروح همًا لاستقبال هادئ. شعور غريب بالسكينة والطمأنينة راودتني، رغبة في الاستزادة بالحكمة والإلهام والإشارات الربانية وسر من أسرار الحياة يجب كشفه. فأنا في قراءة متفحصة عن تاريخ الإنسانية، نأخذ منها ترياق الخلاص أو محاولة مني أن تكون جسرًا لتفسير ما نعيشه حاليًا في هذا الزمن العبثي؛ أبواب الشر كثيرة والمداخل التي يدخل منها الشيطان أكثر فأكثر. أما التكية، فكنت أراني أتعلق بها للحماية، فهي رمز نوراني تفتح أبوابها إلا لمن أتاها بقلب سليم وعقل شجاع وإرادة حرة.

أجيال تلو أخرى، هناك من يحاول أن يحافظ على درب ومسلك الأولين، وهناك من يهبط إلى أسفل السافلين، ينغمس بغرور ومكابرة في الملذات ويصبح أسير الرغبات، آثمًا حتى النخاع. الجميع ذهب إلى ساحة التكية ليجد الملاذ والمغفرة أحيانًا، وهناك من استهان بها، ولكنها تظل مغلقة مبهمة الفهم بأشعارها الأعجمية لكل من يعتل روحه. وكان لكل فرد منهم مآلات ونهايات قدرت حسب خطواته في الحياة. وهذا يعيدنا إلى ذلك السؤال المحير: هل الإنسان مسير أم مخير؟ هو مسير منذ ولادته وعدم القدرة على اختيار أهله وهو في النشأة الأولى إلى أن يشتد عوده فتظهر خياراته، وعند الاختيار يصبح مسيرًا فيه مجبرًا وكأن القدر يشده إليه: هذا أساس اختيارك وهذا مآلك. رواية معجزة بحق: “عاد إلى دنيا النجوم والأناشيد والليل والسور العتيق. قبَض على أهداب الرؤية فغاصت قبضته في أمواج الظلام الجليل، وانتفض ناهضًا ثملًا بالإلهام والقدرة، فقال له قلبه: لا تجزع، فقد ينفتح الباب ذات يوم تحيةً لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة”.

أزعم أن نجيب محفوظ هو هبة ربانية أُرسلت لنا لتصحيح الدرب ومسارات المجتمع، وأنه فهم الحياة وفك رموزها وألغازها، وكان يأخذ من معين خبرته لتنزل مدرارًا إلى عقولنا ويُرسخها ليصبح أفراد المجتمع من المثقفين الأقوياء قادرين على القيادة بحكمة ووعي. وهذا ما كتبه في إحدى مقالاته عن دور الثقافة في النهضة بتاريخ ١٩ أغسطس 1982: “ولكن الثقافة ليست ترفًا روحيًا يمكن تأجيله، ولا فترة استرخاء وراحة تعقب العمل الشاق لتنشط الحواس وتجدد الحيوية. إنها في الواقع المادة المكونة من المعاني والمضامين والمعارف والألوان والأنغام التي تخلق بشتى عناصرها روح الإنسان وعقله وبصيرته وموقفه وسلوكه. بمعنى آخر، هي في مقدمة القوى التي تبني الشخصية الإنسانية وتهبها خواصها وصفاتها المكتسبة. وما المواطن في النهاية إلا ثمرة تتقاسمها الفطرة والثقافة.”

وأخيرًا، يظل نجيب محفوظ هو المعلم الملهم والأثر والنور الذي نسير على دربه.

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات