إسراء إبراهيم
في شهر ميلاد “شاعر الأرض المحتلة” أو “شاعر فلسطين”، فلا يهم اللقب بقدر الأثر الذي تركه الشاعر الراحل محمود درويش، نُلقي الضوء على سطور من حياته العامرة بالتفاصيل التي قد يتناساها البعض في ظل انشغاله بأثره الباقي إلى نهاية التاريخ، بحروفه التي سطرها قلبه وعقله من نور، لتجد دوما مستقرا في قلوب الناس مهما اختلف الزمن.
امتدت حياة “درويش” لنحو 67 عاما، عاش أغلبها بعيدا عن وطنه فلسطين، وشهدت حياته تغيرات عدة سواء على المستوى الفكري أو في طبيعة حياته أو حتى في تطور القصيدة التي ارتبطت بنظرته للحياة.
أنا عربي.. أنا اسم بلا لقب
بدأت حياة محمود درويش بحياة درامية تليق بشاعر الأرض المحتلة -كما أطلق عليه غسان كنافي- إذ ولد في 13 مارس عام 1941 في قرية البروة الفلسطينية التي تقع في الجليل شرق ساحل عكا، ولم يكن قد بلغ السادسة من عمره حتى أصبح لاجئا مع أسرته عام 1947 بسبب الاحتلال الذي دمر القرى والمدن الفلسطينية، ليكون ضمن عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان. ويقول “درويش” في لقاء سابق: “أول قرية لبنانية أتذكرها حينذاك هي رميش. ثم سكنا في (جزين) ثم انتقلنا إلى الناعمة قرب الدامور. وأتذكر الدامور في تلك الفترة جيداً: البحر وحقول الموز.. كنت في السادسة من عمري، لكن ذاكرتي قوية، وعيناي ما زالتا تسترجعان تلك المشاهد.. كنا ننتظر انتهاء الحرب لنعود إلى قرانا. لكن جدي وأبي عرفا أن المسألة انتهت، فعدنا متسللين مع دليل فلسطيني يعرف الطرق السرية إلى شمال الجليل. وقد بقينا لدى أصدقاء إلى أن اكتشفنا أن قريتنا البروة لم تعد موجودة. -وجدت عائلة درويش قريتها مهدومة وقد أقيمت على أراضيها موشاف (قرية زراعية إسرائيلية) (أحيهود)، وكيبوتس يسعور-“.
عاد “درويش” إلى فلسطين لكنه لم يعاود المعيشة في موطن ولادته، بعد أن تحولت قريته لمستوطنة يهودية، فانتقل إلى قرية أخرى باسم دير الأسد في الشمال، ووجد هو وأسرته صعوبة في الحصول على بطاقات إقامة لأنهم دخلوا بطريقة “غير شرعية” أو هربا عبر الحدود اللبنانية، فعندما أٌجري تسجيل السكان كان أسرته غائبة ويقول “درويش”: “صودرت أراضينا وعشنا لاجئين”.
عاش بعدها في حيفا بعدما انتقلت العائلة إلى قرية أخرى اسمها الجديدة وامتلكت فيها بيتا، إذ عاش في حيفا لمدة 10 سنوات تحت الإقامة الجبرية بسبب معارضته لسلطات الاحتلال وكتابته للشعر، ثم عمل محررا في جريدة “الاتحاد”. يوضح: “كنت ممنوعا من مغادرة حيفا مدة عشر سنوات، كانت إقامتي في حيفا إقامة جبرية. ثم استرجعنا هويتنا، هوية حمراء في البداية ثم زرقاء لاحقا وكانت أشبه ببطاقة إقامة. كان ممنوعا عليّ طوال السنوات العشر أن أغادر مدينة حيفا. ومن العام 1967 لغاية العام 1970 كنت ممنوعا من مغادرة منزلي، وكان من حق الشرطة أن تأتي ليلاً لتتحقق من وجودي. وكنت أعتقل في كل سنة وأدخل السجن من دون محاكمة. ثم اضطررت إلى الخروج”.
وفي محاولة لمواجهة عدوان الاحتلال والحكومة الإسرائيلية، انتسب “درويش” إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي والذي كان بمثابة الجبهة المعارضة الوحيدة في الداخل الإسرائيليي، ما عرضه لانتقادات بعض الكُتاب والنقاد العرب الذين اتهموه ببيع القضية الفلسطينية والخيانة أو العمالة لإسرائيل، وذلك بعد سفره ضمن وفد شعبي للحزب الشيوعي الإسرائيلي للمشاركة في مؤتمر الشبيبة بصوفيا 1968، وعمل في صحافة الحزب مثل جريدة الاتحاد والجديد التي أصبح فيما بعد رئيس تحريرها. واتهمته سلطات الاحتلال بالقيام بنشاط معاد لدولة إسرائيل؛ فطورد واعتقل خمس مرات 1961، 1965، 1966، 1967، 1969، وفرضت عليه الإقامات الجبرية حتى العام 1970.
ولكني تعبت من السفر
رغم حبه الشديد لوطنه إلا أن الإقامة الجبرية التي كانت مفروضة عليه من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وحالة الحصار وعدم قدرته حتى نشر كتاباته وأشعاره، وشعره بأنه غريبا مطاردا داخل أرضه، ما جعله يفكر في السفر ليس فرارا من مواجهة المحتل، بل لمحاولة إيجاد منبرا للمقاومة أو العيش بعيدا عن السجن الذي فرض عليه، لكنه وجده نفسه في حالة سفر دائم.
– من موسكو إلى القاهرة
وفي عام 1970، خرج الشاعر الراحل من البلاد لأول مرة متوجها إلى الاتحاد السوفيتي للدراسة عام 1970. وكانت موسكو أول مدينة مدينة كبيرة يعيش فيها. وهناك فقط الثقة بفكرة الشيوعية التي كان مصدرها الاتحاد السوفيتي، لما رأه من فقر وخوف من االسلطلة وفقدت المدينة بريقها في عينه.
بعد رحلة قصيرة إلى روسيا انتقل محمود درويش إلى القاهرة التي اعتبرها مرحلة مهمة في حياته، واستقر بها لبضع سنوات بدأت منذ قدم إليها في فبراير 1971. وشهدت تلك المرحلة العديد من التغيرات السياسية في المنطقة. ويقول الشاعر الفلسطيني عن إقامته في مصر: “فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريبا والأدب المصري، التقيت بهؤلاء الكتّاب الذين كنت من قرائهم وكنت أعدّهم من آبائي الروحيين. والتقيت محمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ وسواهما، والتقيت كبار الكتاب مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم. ولم ألتق بأم كلثوم وطه حسين، وكنت أحب اللقاء بهما”.
عينه الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل في نادي كتّاب “الأهرام” وكان يتقاضى وقتها 140 جنيها، وكان مكتبه في الطابق السادس، وبجواره مكتب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وبنت الشاطئ. وكان توفيق الحكيم في مكتب فردي والبقية في مكتب واحد. وخلال تلك الفترة جمعته صداقة عميقة مع نجيب محفوظ ويوسف إدريس. كما جمعته ضداقة بعدد من الشعراء المصريين منهم صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي وأمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي. ويقول عن تلك الفترة: “القاهرة كانت من أهم المحطات في حياتي.. في القاهرة تمّت ملامح تحوّل في تجربتي الشعرية وكأن منعطفاً جديداً يبدأ”.
كانت الصحف المصرية والأوساط الثقافية في مصر تحتفي بأشعار محمود درويش، قبل قرار إقامته في القاهرة، وذلك من خلال العديد من المقالات والملفات التي كان من أبرزها ملف “دار الهلال”، التي نشرت إحدى أحدث دواوينه عام 1968. عمل أيضا بمجلة “الطليعة”، ومن قبلها بمجلة “المصور، وجمعته علاقة بأحمد بهاء الدين ومحمد حسنين هيكل.
– بيروت والحرب الأهلية
انتقل بعد ذلك الشاعر الراحل من القاهرة إلى بيروت وظل بها منذ عام 1973 حتى عام 1982. وعاصر الحرب الأهلية في لبنان التي أثرت على المشهد الثقافي هناك، وخلال الحرب فقد صديقه الشاعر اللبناني غسان كنفاني. ويقول عن فترة تواجده ببيروت: “كنت أشعر أن وجودي في بيروت سيطول، ولم أكن أشعر بالحرج وكأنني مقيم في شكل شرعي. ولكن أن أكون مقيماً في شكل إجباري ومضاد لرغبة اللبنانيين عبر تعايشهم القسري معنا، فهذا كان يزعجني. وعندما خرجت القيادة الفلسطينية والمقاتلون الفلسطينيون من بيروت لم أخرج. بقيت في بيروت أشهراً عدة. لم أتوقع أن الإسرائيليين سيحتلون بيروت. ولم أجد معنى لخروجي في السفن مع المقاتلين. ولكن في صباح ذات يوم وكنت أسكن في منطقة الحمراء، خرجت لأشتري خبزاً وإذا بي أشاهد دبابة إسرائيلية ضخمة. دخلت إسرائيل قبل الإعلان عن الدخول. حينذاك وجدت نفسي وحيداً أتجوّل في الشوارع ولا أرى سوى الدبابات والجنود الإسرائيليين ورجالاً ملثمين. قضيت فعلاً أياماً صعبة جداً، ولم أكن أعرف أين أنام. كنت أنام خارج البيت في مطعم، وأتصل بجيراني لأسألهم إن كان الإسرائيليون سألوا عني. إذا قالوا: نعم جاؤوا، فكنت أدرك أنهم لن يأتوا مرة أخرى، فأذهب إلى بيتي، أتحمّم وأرتاح ثم أعود إلى المطعم. إلى أن حصلت الكارثة الكبرى وهي مجزرة صبرا وشاتيلا. عندذاك تيقنت أن بقائي هناك ضرب من العبث والطيش”.
– الهروب إلى ليبيا
قرر “درويش” الخروج من بيروت متجها إلى ليبيا، واتفق مع السفير الليبي في بيروت على ذلك، وساهم أحد الضباط اللبنانين في خروجه من بيروت عبر منطقة الأشرفية، ومن هناك خرج إلى طرابلس. ومن طرابلس انتقل إلى دمشق وظل بها أسبوعا.
– باريس وولادته الشعرية الحقيقية
غادر محمود درويش دمشق متجها إلى تونس، وهناك قابل الرئيس عرفات والذي طلب منه الاستمرار في إصدار مجلة “الكرمل”، وذهب عقب ذلك إلى قبرص للحصول على رخصة للمجلة، التي صدرت من قبرص وكان يحررها في باريس ويطبعها في نيقوسيا، وكان يعاونه فيها الشاعر سليم بركات، واستمرت المجلة في الصدور حتى توقفت عام 2006، وصدرت مجلة بنفس الاسم من فلسطين مستمرة إلى الآن.
وعاش في باريس نحو 10 سنوات متقطعة، ويقول عن تلك الفترة: “كانت باريس عبارة عن محطة أكثر منها إقامة أو سكناً، لا أعرف.. لكنني أعرف أنه في باريس تمت ولادتي الشعرية الحقيقية، وإذا أردت أن أميّز شعري، فأنا أتمسك كثيراً بشعري الذي كتبته في باريس في مرحلة الثمانينيات ولا أعرف فعلاً إن كانت باريس هي التي أصابتني أم أن مرحلة نضج ما تمت في باريس، في باريس كتبت ديوان “ورد أقل” وديوان “هي أغنية” و”أحد عشر كوكباً” و”أرى ما أريد” وكذلك ديوان “لماذا تركت الحصان وحيداً؟” ونصف قصائد “سرير الغريبة”. وكتبت نصوص “ذاكرة للنسيان” وغاية هذا الكتاب النثري التحرر من أثر بيروت، وفيه وصفت يوماً من أيام الحصار. معظم أعمالي الجديدة كتبتها في باريس. كنت هناك متفرّغاً للكتابة على رغم انتخابي عضواً في اللجنة التنفيذية، وفي باريس كتبت نص إعلان الدولة الفلسطينية، مثلما كتبت نصوصاً كثيرة ومقالاً أسبوعيا في مجلة “اليوم السابع”، كأنني أردت أن أعوّض عن الصخب الذي كان يلاحقني في مدن أخرى”.
– العودة للوطن
بعد إعلان دولة فلسطين، وفي نهاية عام 1995 قرر محمود درويش العودة إلى أرض الوطن، ويقول عن قراره: “بعدما أصبح في إمكاني أن أعود إلى جزء من فلسطين، وقفت طويلا أمام خيار العودة، وشعرت بأن من واجبي الوطني والأخلاقي ألا أبقى في المنفى، فأنا أولاً لن أكون مرتاحا، ثم سأتعرض إلى سهام من التجريح لا نهاية لها، ثم سيقال إنني أفضل باريس على رام الله أو على غزة. وبالتالي اتخذت الخطوة الشجاعة الثانية بعد الخروج وهي خطوة العودة. وهاتان الخطوتان من أصعب الأمور التي واجهتها في حياتي: الخروج والعودة. اخترت عمان لأنها قريبة من فلسطين ثم لأنها مدينة هادئة وشعبها طيب. وفيها أستطيع أن أعيش حياتي. وعندما أريد أن أكتب أخرج من رام الله لأستفيد من عزلتي في عمان.. التوتر عالٍ جداً في رام الله. ومشاغل الحياة الوطنية واليومية تسرق وقت الكتابة. إنني أمضي نصف وقتي في رام الله والنصف الآخر في عمان وفي بعض الأسفار. في رام الله أشرف على إصدار مجلة (الكرمل)”.
الحب.. والوحدة
الحب جزء أصيل من حياة محمود درويش، ظهر بعمق في قصائده وأشعاره التي لا زالت حاضرة رغم غياب قائلها، والسنوات الطويلة، لتخترق الوجدان وتعبر عن المشاعر التي لا تتغير مهما تغيرت الظروف والناس.
– قصة حبه بفتاة يهودية
“ربما لم يكن شيئا مهما بالنسبة لك.. لكنه كان قلبي”
تلك الجملة تلخص قصة الحب الأشهر التي يتداولها الجميع، وجمعت “درويش” بفتاة تُدعى ريتا وهو الاسم الوحيد الذي ذكره “درويش” عن حبيباته الذي كان متحفظا بشأنهن، وهي القصة التي تدور الشُبهات حول حقيقتها.
فتح الشاعر الراحل باب التساؤلات حول هوية ريتا المقصودة في حوار أجراه مع الشاعر اللبناني عباس بيضون عام 1995، إذ قال: “لا أعرف امرأة بهذا الاسم فهو اسم فني، ولكنه ليس خاليًا من ملامح إنسانية محددة؛ وإذا كان يريحك أن أعترف أن هذه المرأة موجودة، فهي موجودة أو كانت موجودة، تلك كانت قصة حقيقية محفورة عميقًا في جسدي”. وبعد ذلك بعامين ألحّت عليه الكاتبة والصحفية الفرنسية لور إدلر، في مقابلة تليفزيونية، لكي يبوح بحقيقة “ريتا”، التي كتب عنها قصائد “ريتا والبندقية”، و”شتاء ريتا الطويل”، فأجاب: “لا أعرف امرأة بهذا الاسم، فهو اسم فني، ولكنه ليس خاليا من ملامح إنسانية محددة”.
وظلت هوية الفتاة اليهودية سرا مجهولا حتى كشف عنها الفيلم الوثائقي “سجّل أنا عربي”، للمخرجة والمصورة ابتسام مراعنة، الذي عرض 2019 في مهرجان تل أبيب “دوكو أفيف” للأفلام الوثائقية، وفاز بجائزة الجمهور، بعدما التقت بحبيبة درويش القديمة فى برلين، وكشف الفيلم عن اسمها تامار بن عامي، وكانت تعمل راقصة، التي ربطته بها علاقة عاطفية قصيرة، قبل أن تجبرهما حرب يوليو عام 1967 على الافتراق.
ووفقا لكتاب “أقاصيص العشق” للكاتب محمد رفعت دسوقي، فإن ريتا هي في الأصل فتاة تُدعى “تمارا”، ويقص الكاتب أن “ريتا” صاحبة الاسم الذي اختاره “درويش” أكدت أنها تعرفت على محمود درويش بعد رقصة أدتها في مقر الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي كان “درويش” عضوا فيه قبل استقالته عندما كان عمره 16 عاما، ليفترقا بعدما استدعيت تمارا للجندية بسلاح البحرية الإسرائيلي.
اسم ريتا كان عيدا في فمي
جسم ريتا كان عرسا في دمي
وأنا ضعت بريتا.. سنتَينِ
وتعاهدنا على أجمل كأس، واحترقنا
في نبيذ الشفتين
وولدنا مرتين!
– زواجه من رنا قباني
الصدفة جمعت بين الشاعر الفلسطيني والشاعرة والكاتبة رنا قباني -ابنة السفير صباح قباني شقيق الشاعر نزار قباني- إذ كانت رنا تدرس في واشنطن، وقررت بعد إلحاح من صديقة حضور الأمسية التي دُعي الشاعر لإحيائها في جامعة جورج تاون. وقدمها المفكر والكاتب اللبناني كلوفيس مقصود لـ “درويش”. تلك الصدفة لم تكن عابرة فوجدا الثنائي نفسيهما يستعدان للزواج بسرعة كبيرة حيث تطورت علاقتهما رغم فارق السن، فكانت رنا تبلغ وقتها نحو 19 عاما، بينما محمود درويش في الثلاثينات من عمره.
تزوج الحبيبان واستقرا في لبنان الذي كان يعاني من ويلات الحرب الاهلية، وهدأت وطأة الحب الذي نشأ مشتعلا، ووقع انفصالا بعد 9 أشهر من الزواج، قبل أن يعطيا نفسيهما فرصة ثانية استمرت لسنتين ثم آلت إلى انفصال نهائي. وتقول “القباني” عن علاقتها بالشاعر الراحل في حوار سابق: “كانت علاقتي بمحمود بركانية وعاصفة”، وتضيف: “الكاتب إنسان مريض ومضطرب، وهو ما أنا عليه أيضاً. وقد اخترت من اخترت لأنه يشبهني، إذ يصعب زواجي من صيرفي على سبيل المثال”. مشيرة إلى أن الراحل خصها بقصيدة “الرمل”. وأشارت القباني إلى أن “درويش” اعتاد تقديم الورود والهدايا لها، ورغم تلك اللمسات الرومانسية لم تمنعها عن رؤيته زوجا فاشلا، فتقول: “لم يُخلق ليكون أبا وزوجا ورب أسرة. إنه شاعر رائع ولكنه زوج فاشل”.
يقول الكاتب شوقي بزيغ في مقال كتبه بجريدة “الشرق الأوسط”: “وضْع ما قالته رنا عن محمود في موضع التجني على الشاعر، هو افتئات على الحقيقة التي يعرفها الجميع، والتي كان درويش يجاهر بها أمام أصدقائه الأقربين دون أي شعور بالتحفظ أو الحرج. لا بل إن درويش لم يتردد، أثناء لقاء جمعني به وبممدوح عدوان في القاهرة، في التحدث عن الزواج بوصفه المحاولة المثلى لاغتيال الإبداع. على أن ما لفتنا يومها كان موقفه الأكثر سلبية من الإنجاب، الذي اعتبره محمود أخطر على الكاتب من الزواج نفسه، لأن بوسع الرجل أن يطلق امرأته متى شاء، ولكن ليس بوسعه التخلص من أطفاله. وحيث تحدث مستطرداً عن إكراه زوجته الحامل رنا قباني على التخلص من الجنين، كان يلح على التوضيح بأنه لم يفعل ذلك بتأثير من أنانيته العالية أو بسبب كرهه للأطفال، بل لأنه أوهن من أن يتعايش، ولو في الخيال، مع ما يمكن أن يواجهه طفله المرتقب من احتمالات الألم أو المرض أو الموت المبكر. لم يكن بالأمر المفاجئ تبعاً لذلك أن يجد الزوجان المتشابهان في التكوين المزاجي، والمختلفان في طريقة العيش وأنماط السلوك والرؤية إلى الأشياء أمام خيار الانفصال، الذي لم يتأخرا عن تنفيذه قبل أن ينهيا العام الأول من حياتهما المشتركة. كما لم تفلح الفرصة الثانية التي منحاها لنفسيهما، والتي استمرت لسنتين إضافيتين، في تضييق ما بينهما من فروق وتباينات. ولهذا كان انفصالهما نهائياً هذه المرة، حيث اختارت رنا أن تكمل دراستها في أوكسفورد، لترتبط بعد سنوات بالصحفي البريطاني المعروف باتريك سيل. ولم يكن نصيب محمود من زواجه الثاني بالكاتبة والمترجمة المصرية حياة الهيني، بأفضل من نصيبه من زواجه الأول”.
أعيدّي لي الأرض كي أستريح
فإني أحبّك حتى التعب..
فى منتصف الثمانينيات تقريبا تزوج محمود درويش، من المترجمة المصرية حياة الحيني، وكان الشاعر الراحل وقتها في منتصف الأربعينيات من عمره وشاهدها “درويش” لأول مرة في حفل دعته إليه إحدى صديقاته، وأعجب بـ”الحيني” التي لم يكن يعرفها وقتها، وحاول التعرف عليها من خلال إقامة حفل دعى فيه نفس حضور الحفل الذي عزمته عليه صديقته، لكن “الحيني” لم تحضر. وعقب عام من رؤيته لها شاهدها للمرة الثانية في منزل صديقته مصادفة وبدأت من هنا قصة الحب التي لم تدم طويلا.
قالت “الحيني” في فيلم وثائقي إن “درويش” كان يضع لها وردة حمراء كل يوم على السرير ما عدا لو كان بينهما بعض الخصام، وفي يوم كتب لها قصيدة وظل يلقيها عليها كالندى، وسمع مارسيل خليفة بالقصيدة فطلبها من درويش ليلحنها ولكنه رفض، وقبل ذهابه إلى أمريكا لدخول غرفة العمليات اتصل الشاعر الراحل بمارسيل وطلب منه أن يلحن الاغنية ويغنيها، وكانت قصيدة يطير الحمام. وقالت “الحيني” إن القصيدة كانت مفاجأة لأنها لم تعرف أن “درويش” يكتب قصيدة لها، إذ كانت مسافرة لعمل وعندما عادت أسمعها القصيدة. لكن قصة حبهما لم تصل للعام ولم تُكلل بالنجاح.
يقول محمود درويش عن زواجه من حياة الحيني: “لم نُصب بأية جراح، انفصلنا بسلام، لم أتزوج مرة ثالثة ولن أتزوج، إننى مدمن على الوحدة. لم أشأ أبدًا أن يكون لى أولاد، وقد أكون خائفاً من المسؤولية، ما أحتاجه استقرار أكثر، أغيّر رأيي، أمكنتي، أساليب كتابتي، الشعر محور حياتي، ما يساعد شعرى أفعله وما يضره أتجنبه”.
– هل أحب “نونة”؟
تحدث البعض عن وجود قصة حب مزعومة بين الشاعر الفلسطيني الراحل وبين الفنانة الكبيرة نجاة، وفي هذا السياق يشير الكاتب سعيد الشحات ضمن سلسلة “ذات يوم” روى أن الكاتب الفلسطيني عبد الباري عطوان، في مذكراته “وطن من كلمات” وفيه روى القصة كما رواها له “درويش”، ويزعم “عطوان”، وجود علاقة حب جمعت بين درويش ونجاة، ويقول: “هي قصة طريفة رواها لي محمود، وهي أنه بعد أن حضر إلى القاهرة قادمًا من موسكو أقام في فندق (شبرد) المطل على النيل، وفي كل يوم كان يأتيه سلة ورد على غرفته، عليها كارت يحمل توقيع: (مع تحياتي، نونة)”. يضيف: “مع استمرار إرسال الورد، ذهب درويش إلى صديقه الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين وحكى له، متسائلا: (مين نونة فرد (بهاء): (ممكن تكون ناعسة، ناريمان، نيللي، أنت وحظك، وأنا مقدرش أتوقع مين دي)”.
يتابع: “بقيت الحال على هذا النحو أياماً أخرى، حتى تلقى درويش تليفونًا وكان الصوت ناعمًا ورقيقًا وسألته صاحبته: (أكيد أنت عايز تعرف مين نونة؟، بكرة الساعة 12 هحضر أمام الأوتيل بعربيتي).. وفي الموعد المحدد وجد محمود درويش سيارة تغطي ستائر سوداء نوافذها الخلفية، ولما انفتح باب السيارة فوجئ بالفنانة نجاة تنزل منها، وكانت هي “نونة”)، ذكر ذلك عبد الباري عطوان في مقال بعنوان “محمود درويش الذي عرفت”. بجريدة “دنيا الوطن- 11 أغسطس 2008”.
كان الشاعر أحمد الشهاوي، لفت إلى أن المطربة الكبيرة كان من المفترض أن تغني قصيدة لـ”درويش”، بعنوان “أغنية حب فلسطينية”، وكان من المفترض أن يلحنها الموسيقار محمد عبد الوهاب لكي تغنيها نجاة لأول مرةٍ في الحفلةِ التي تُقام لصالح المقاومة الفلسطينية، لكن تلك الأغنية لم تظهر للنور ولا يوجد معلومة مؤكدة بشأن حقيقة تلك القصة والعلاقة التي جمعت الشاعر الراحل والفنانة الكبيرة.
رحلته الشعرية
بدأت رحلة “درويش” الشعرية عام 1964 بديوانه الأول “أوراق الزيتون” والذي كان يسيطر عليه روح المقاومة، وبعد هزيمة 1967 اتسم شعره بالهجاء للحكام العرب، وظلت فكرة المقاومة مسيطرة على شعره وداووينه التي كانت تلقى رواجا كبيرا.
بين عامي 1964 و2008 صدرت لدرويش أكثر من عشرين مجموعة شعرية، بالإضافة إلى كتاباته النثرية الأخرى، حدثت بها تحولات عديدة فيما يقدمه ما بين التمرد والمقاومة، ثم مرحلة النضج الشعري والطابع الفلسفي ونظرته المختلفة للآخر، كما حدث تطور كبير في بناء قصيدته وتجديده بها.
ابنة غير شرعية
وكما كانت حياة “درويش” مليئة بالأحداث، فبعد رحيله كانت سيرته وسيرة حياته الخاصة والمجهولة عن العامة محط اهتمام، فكان صديقه الشاعر والروائي السوري سليم بركات، أثار الجدل بعد ذكره سرا يعود لأكثر من 30 عاما عن الشاعر الفلسطيني، وهو ووجود ابنة غير شرعية نتيجة علاقة عابرة مع امرأة متزوجة.
كان “بركات” يدون مجموعة من المقالات عن الحياة الخاصة لمحمود درويش، وفي إحدى مقالاته في يونيو 2020 التي نشرها بصحيفة القدس العربي، بعنوان “محمود درويش وأنا”، حكى خلالها عن علاقته بالشاعر الفلسطيني، وعن سر ابنته غير الشرعية الذي حكاه له عام 1990، بقبرص. والذي أعيد نشره في كتاب سليم بركات “لوعة كالرياضيات وحنين كالهندسة”.
كتب “بركات” في مقاله “(لي طفلة.. أنا أبٌ.. لكن لا شيء فيَّ يشدُّني إلى أبوَّةٍ)”، قال. كنا نتبادل كشتباناتٍ من تدريب اللسان على الأبوَّةِ (مُذْ صارت زوجتي حاملاً) قبل تدريب الوجدان على الأبوَّةِ. ليس الأمر أن يكون المرءُ أباً لسليلٍ من لحمه، بل أن تكون الأبوَّةُ، ذاتُها، على قُرْبٍ لَمْساً من السَّليل. أبوَّةٌ لم تَلْمَسْ بيديِّ الجسدِ سليلَها؛ لم ترَ بعينيِّ الجسدِ سليلَها، أبوَّةٌ فكرةٌ. الغريزةُ قُرْباً، والغريزةُ لَمْساً، والغريزةُ علاقةً، هي أمُّ الأبوَّةِ، وأبوها. محمود، حين كلمني عن أبوَّتهِ المتحقِّقة إنجاباً محسوساً، كلمني عن فكرةٍ في عموم منطقها بلا تخصيصٍ. أنا لم أسأله مَنْ تكون أمُّ طفلته. امرأة متزوجةٌ، اختصاراً، أخذت منه برهة اللحم لذَّةً من لذائذ المفقود المذهل، فاحتوتها كياناً لحماً. هل ستفاتح تلك المرأة ابنتَها، في برهة من برهات نَقْرِ السرِّ بمِنْسَرهِ على اللحم، تحت الجلد، بالدم “الآخر”، فيها؟ لا أعرف إن كان محمود يتفكر في الأمر”.
– لم أجد أحدًا
“صدقت أني مت يوم السبت قلت علي أن أوصي بشيء ما
فلم أعثر على شيء وقلت عليّ أن أدعو صديقا ما لأخبره بأني متّ
لكن لم أجد أحدا”
مات محمود درويش يوم السبت 9 أغسطس -كما تنبأ- في كتابه الأخير “أثر الفراشة” الصادر في يناير 2008، من خلال قصيدته “إجازة قصيرة”، وتوفي في الولايات المتحدة الأمريكية بعد إجراء عملية قلب مفتوح في المركز الطبي في هيوستن، التي دخل بعدها في غيبوبة أدت إلى وفاته.
نعى وقتها الرئيس محمود عباس شاعر فلسطين محمود درويش، وأعلن الحداد 3 أيام في كافة الأراضي الفلسطينية حزنا على وفاته، وري جثمانه الثرى في 13 أغسطس في مدينة رام الله حيث خصصت له هناك قطعة أرض في قصر رام الله الثقافي. وقد شارك في جنازته الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني وشخصيات بارزة في مقدمتهم الرئيس محمود عباس. وتم نقل جثمان الشاعر محمود درويش إلى رام الله بعد وصوله إلى العاصمة الأردنية عمّان.