إسراء إبراهيم
يوافق شهر ديسمبر، ذكرى وفاة الأديبة الكبيرة رضوى عاشور، التي رحلت يوم في الأول من ديسمبر عام 2014. تاركة عالمنا كجسد، لكنها موجودة وحاضرة بأعمالها الأدبية الخالدة.
رضوى عاشور واحدة من الأديبات العرب النادر وجودهن في الفترة التي ظهرت بها. كانت “السيدة راء” كما تُلقب من أبرز من قدمن النساء في أعمالهن الأدبية بصورة مستقلة، مناضلات وحالمات يبحثن عن الحياة التي يريدن أن يعيشهن.
اختارت “عاشور” أن تحمل أعمالها، عمقا أدبيا وفلسفيا وتاريخيا، كما كانت تحمله روحها التي شهدت على نضال شعبها ضد الإنجليز من شرفة منزلها. فبدأت من تلك اللحظة رحلة البحث عن الهوية والنضال وإثبات نفسها كسيدة تعلم تأثير الكلمة والفكر.
للقراءة| في مئويتها.. محطات في حياة صاحبة “الباب المفتوح” لطيفة الزيات
فلسفة الاسم
ولدت رضوى عاشور 26 مايو 1946 في القاهرة. والدها هو المحامي مصطفى عاشور، المحب للأدب، ووالدتها هي الفنانة والشاعرة مي عزام. كانت الفتاة الوحيدة في أسرتها وأخت لثلاثة ذكور.
جدها لأبيها هو محمد عاشور تاجر مينا فاتورة. جدّها لأمها عبد الوهاب عزام، الدبلوماسي وأستاذ الدراسات والآداب الشرقية في جامعة القاهرة، وأول من ترجم “كتاب الملوك الفارسي (شاه ناما)” إلى اللغة العربية. وكان يُتقن الفارسية والأردية؛ وسفيرٌ سابقٌ لمصر في باكستان.
في سيرتها الذاتية “أثقل من رضوى” أشارت إلى أن جدها لأمها هو من اختار اسمها على اسم جبل “الرضوى” الكائن بالقرب من المدينة المنورة، وهو الذي كان العرب يضربون به المثل في الرسوخ فيقولون “أثقل من رضوى”.
نشأتها في أسرة محبة للأدب، كان له عميق الأثر على حبها للأدب، ورغبتها في أن تصبح كاتبة منذ طفولتها. وكتبت رضوى عاشور أولى قصصها في الصغر، لكنها عندما قرأت لتشيخوف امتنعت عن الكتابة، ظنا منها أن كتابتها رديئة واهتمت بتعليمها.
من الدراسة للتدريس.. رحلة رضوى عاشور التعليمية
درست في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وحصلت على شهادة الماجستير في الأدب المقارن عام 1972، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة، حيث نالت شهادة الدكتوراه من جامعة ماساتشوستس عام 1975، بأطروحة حول الأدب الإفريقي -الأمريكي.
عملت بالتدريس في كلية الآداب بجامعة عين شمس، وأشرفت على الأبحاث والأطروحات المرتبطة بدرجتي الدكتوراه والماجستير. كما عملت أستاذة زائرة في جامعات عربية وأوروبية. وشغلت منصب رئيس قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بكلية الآداب بجامعة عين شمس بين عامي 1990 و1993.
للقراءة| مصطفى محمود.. محطات مثيرة في حياة صاحب “العلم والإيمان”
بدأت من النقد وانتقلت للأدب
قدمت “عاشور” أعمالها النقدية، التي بدأتها في 1977، بنشرها كتاب “الطريق إلى الخيمة الأخرى” حول التجربة الأدبية لغسان كنفاني.
كما صدر لها بالإنجليزية عام 1978 كتاب “جبران وبليك”؛ وهي الدراسة التي شكّلت أطروحتها لنيل شهادة الماجستير سنة 1972. وقد صدر آخر عمل نقدي لها في 1980 بعنوان “التابع ينهض”، حول التجارب الأدبية لغرب أفريقيا.
كان أول أعمالها سيرة روائية عام 1983 باسم “أيام طالبة مصرية في أميركا”، أتبعتها بإصدار ثلاث روايات هي: (حجر دافئ، خديجة وسوسن وسراج)، ثم المجموعة القصصية “رأيت النخل” سنة 1989.
وفي تلك المرحلة المرحلة أصدرت روايتها التاريخية الأبرز “ثلاثية غرناطة” سنة 1994، التي جعلتها تفوز بجائزة أفضل كتاب لسنة 1994 على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب، وجاءت ضمن قائمة الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب لأفضل 100 رواية عربية. وتحكي “عاشور” عن كواليس كتابتها لروايتها الأشهر: “أذكر أنني كنت أشاهد الطائرات الأمريكية وهي تقصف بغداد في مطلع شتاء 1991، وكنتُ في كربٍ عظيم، يبدو لي أنني سأموت من هول ما يحدث، وأذكر أنني في تلك الفترة كان يشغلني سؤال الانقراض؛ هل نحن على وشك الانقراض؟ ما الذي يحدث لنا؟ وبدأت أقرأ عن غرناطة، وبالتالي فإن المسألة بدأت حاجة نفسية محضة، رغبة في التعرف، رغبة في تهدئة المخاوف، ثم بدأ فعل الكتابة كأنه دفاع عن النفس”.
رسائل حب ممتدة بين رضوى عاشور ومريد البرغوثي
كما الروايات كانت بداية لقائها شاعرية بزوجها مريد البرغوثي، إذ صادفته على سلم المكتبة المركزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1966، وهو يلقي على أصدقائه إحدى قصائده إذ كان تكتب شعرا هي الأخرى في بدايتها وتركته من أجل حبها. ونشأت بينهما قصة حب توجت بالزواج، واستمرت أكثر من 4 عقود حتى فارقت الحياة عام 2014.
رفضت أسرة “عاشور” في البداية الزواج أنهم رأوا أن “البرغوثي” بلا مستقبل في ظل الشتات الذي يتعرض له خارج بلاده فلسطين، لكن أمام إصرارها تم عقد زواجهما في 22 يوليو عام 1970. وعاش مريد ورضوى حياة سعيدة حتى عام 1977، وقت كتب مريد مقالاً ندّد فيه بزيارة الرئيس محمد أنور السادات إلى “إسرائيل”، فسجن على إثره وتم ترحيله، وظل ممنوعا من العودة لمدة 7 سنوات، حيث أخذته الطائرة إلى المجر.
في العام نفسه لترحيل مريد، أنجبت رضوى “تميم” ابنهما الوحيد. ولم يكن فراقهم لسبع سنوات فقط، إذ لم يُسمح له بعدها بالإقامة في مصر، واضطر لأن يبقى بعيداً لـ 10 سنوات أخرى، باستثناء زيارة سنوية لمدة أسبوعين فقط.
تقول رضوى عاشور عن قصتهما: “غريب أن أبقى محتفظة بالنظرة نفسها إلى شخص ما طوال 30 عاما، أن يمضي الزمن وتمر الأعوام وتتبدل المشاهد وتبقى صورته كما قرت في نفسي في لقاءاتنا الأولى”. ويقول عنها “البرغوثي: “أصبحنا عائلة.. ضحكتها صارت بيتي”.
ارتباط رضوى عاشور بفلسطين
لم يكن ارتباط رضوى عاشور فقط بالقضية الفلسطينية نابع من زواجها من الفلسطيني مريد البرغوثي الذي جاء إلى مصر عام 1963، ليدرس بقسم الإنجليزية في جامعة القاهرة، فكان عام تخرّجه عام النكسة، ليمُنع بعدها من الرجوع لوطنه، ويصبح مصيره الشتات كأغلب فلسطينيي الخارج في تلك الفترة. وتمكّن “البرغوثي” من العودة لرام الله في أواخر التسعينيات، وكتب سيرته الذاتية “رأيت رام الله”، وفاز عنها بجائزة نجيب محفوظ عام 1997.
كانت علاقة رضوى بالقضية نابعة من ذاتها وداخلها، فساهمت في إنشاء اللجنة الوطنية لمكافحة الصهيونية في الجامعات المصرية حين سعى الرئيس السادات للتطبيع مع الكيان الصهيوني.
بل كان كتابها الأول في مشروعها النقدي “الطريق إلى الخيمة الأخرى” عام 1978، عن كتابات الأديب الفلسطيني غسان كنفاني.
جاءت رائعتها الأشهر في مسيرتها “الطنطورية” لتؤكد على أن اختيارها الدفاع عن القضية الفلسطينية وتبنيها نابع من قناعتها الداخلية وليس العائلية. فرصدت في رائعتها التغريبة الفلسطينية التي عانى منها شعب كامل من خلال عائلة واحدة على مدار أجيال، ورصدت فيها معاناة الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال.
مسيرة حافلة بالجوائز
حصلت الأديبة رضوى عاشور في يناير 1995 على جائزة أفضل كتاب عن الجزء الأول من “ثلاثية غرناطة”، على هامش معرض القاهرة الدولى للكتاب. كما فازت في نفس العام الجائزة الأولى من المعرض الأول لكتاب المرأة العربية عن “ثلاثية غرناطة”.
وفي يناير 2003 كانت ضمن مجموعة من 12 أديبا عربيا تم تكريمهم، على هامش معرض القاهرة الدولى للكتاب. كما فازت بجائزة قسطنطين كفافيس الدولية للأدب في اليونان. وجائزة تركوينيا كارداريللي في النقد الأدبي في إيطاليا، وجائزة بسكارا بروزو عن الترجمة الإيطالية لرواية “أطياف” في إيطاليا، وجائزة سلطان العويس للرواية والقصة.
30 عاما من المعاناة انتهت بالرحيل
على مدار 30 عاما خاضت صراعا كبيرا مع مرض السرطان. أجرت على إثره 5 عمليات استئصال، وكان يعاود الظهور بعد عامين أو ثلاثة. وأوضحت في مذكراتها “أثقل من رضوى”، أنه كان ورما حميدا يحمل اسم “شوانوما”. وتقول عنه: “تورمٌ مزعجٌ خلف أذني اليمنى، يبدأ بحجم حبة لوز، ثم يكبر. نستأصله. يعاود الظهور بعد عامين أو ثلاثة. هذا هو الحال منذ ثلاثين عامًا”.
في المرة الأخيرة ظهر ورم خلف أذنها اليمنى، منعتها مشاعر الخوف من زيارة الطبيب لاستئصاله حتى اصطحبها زوجها إلى الطبيب الذي طلب تقريراً بأشعة الرنين المغناطيسي، لاحتمالية تحوّله إلى ورم “خبيث”، لينتهي الأمر بتدهور حالتها الصحية، ويقرر الأطباء استئصال جزء من الجمجمة كإجراء وقائي، لكن المرض لازمها حتى وفاتها في عام 2014، عن عمر ناهز 68 عاما.
كانت وصية رضوى عاشور أن تخرج جنازتها من مسجد عمر مكرم، في وسط القاهرة، لكن الأوضاع السياسية آنذاك، حالت دون تحقيق ذلك. وخرجت جنازتها يوم 1 ديسمبر 2014، من مسجد صلاح الدين، بمنطقة المنيل، وشارك فيها عدد من الكتاب والمثقفين والسياسيين.
ليودعها رفيق دربها الشاعر مريد البرغوثي عبر صفحته على “فيس بوك”، بآخر جملة كتبتها في “ثلاثية غرناطة”، وهي “لا وحشةَ في قبر مريمة”، بعدما بدل الاسم فجعلها: “لا وحشة في قبر رضوى”.