مرتان في كل عام..
مرة في أوائل ديسمبر، ومرة في آخر أغسطس..
مرتان تتجدد فيهما الذكرى، بكل ما تحويه الذكرى من شجن، ورؤية، وتفكر، واسترجاع لملايين الكلمات التي اخترقت جدار القلب والعقل على مر العمر كنغمة حالمة أو كرصاصة توقظ الغافل، ثم بقيت بالداخل، وذابت في تيار الدم المتدفق إلى الأنسجة والأطراف والأقلام، لتصير جزءًا لا يتجزأ من وعي وشعور كل من أمسك بالقلم..
في كل عام مرتين تمر بنا ذكرى خاصة لأعظم روائي كتب بالعربية، وأزعم أنه الكاتب الروائي الوحيد الذي يحفظ القارئ يوم ميلاده (11 ديسمبر) ويوم رحيله (30 أغسطس)..
فهل يذكر القارئ غير المتخصص تاريخ ميلاد ورحيل كاتب أخر؟!
هذه قضية أخرى ربما أعود لها في وقت لاحق ومقال منفرد..
للقراءة| أحمد المرسي يكتب: رحلتي مع نجيب محفوظ.. من خبر في التلفزيون إلى هوية
ولكن اليوم، ونحن نحتفي بالذكرى الثامنة عشر لرحيل النجيب العظيم، ماذا أكتب؟ إن ما كتبه محفوظ كثير وعظيم، وما كُتب عن محفوظ كثير، وكثير جدًا.. وما تختزنه النفس مما أفاء الله به علينا من كلمات الرجل وأثره أكثر وأكبر مما يتعذر معه الاختيار والولوج إلى تلك المغارة المترامية وانتقاء ما يصلح من جواهرها للاحتفال بلا حيرة..
ولكنني وبعد حيرة قصيرة، اهتديت إلى أن أجمل ما يمكن تقديمه للرجل في ذكراه هو إعادة إحياء كلماته المدهشة الباهرة، وتقديمها لقارئه العاشق، ولقارئ لم يتعرف عليه بعد، ولم تتح له الفرصة للدخول إلى عالم نجيب محفوظ الزاخر..
ولكن أي كلمات من بين هذا المحيط الزاخر الممتد؟!
هنا تذكرت ما كان ينتابني في مراهقتي من انبهار غير مسبوق وأنا أطالع روايات محفوظ.. وأعني بالتحديد تلك الدهشة وأنا أقرأ افتتاحية أي رواية جديدة..
هذه الافتتاحيات كنت أقف أمامها أيامًا.. أستعيد قراءتها، واستحلابها، واستطعامها، وتأملها.. وإنني أدهش الآن أن تكون لهذه البراجرافات هذا التأثير على مراهق في الرابعة عشر من عمره.. ماذا فهم منها؟ وماذا يملك من حصيلة لغوية حتى تأسره بهذه الشكل؟ وماذا امتلك من خبرة حياتية حتى تكون لتلك الكلمات المكثفة الشجية سطوة عليه وتأثيرًا لا يزول مدى عمره؟!..
وإنني أذكر بعد تعرفي -في مراحل لاحقة من العمر والمعرفة- على قصيدة النثر، أنني عددت هذه الافتتاحيات مقاطع من الشعر، وكثيرًا ما قدمتها في ندوات للشعر أو الكتابة كنماذج من الشعر قبل أن أفاجيء الحضور بأنها مجرد افتتاحيات لرواية من روايات نجيب محفوظ.. أي أنها تصنف في السرد كنثر!
هنا قررت أن يكون مقالي مجرد انتقاء وتنسيق لباقة من الافتتاحيات الخالدة لروايات نجيب محفوظ.. أرجو أن يجد فيها قارئ نجيب محفوظ العتيد ذكرياته، وأن يجد فيها القارئ الجديد ما يغريه ويمهد له الانخراط في طابور العاشقين!
الحرافيش – رواية:
(في ظلمة الفجر العاشقة، في الممرِّ العابر بين الموت والحياة، على مرأًى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طُرِحت مناجاةٌ متجسِّدة للمعاناة والمسرَّات الموعودة لحارتنا).
رحلة ابن فطومة – رواية:
(الحياة والموت، الحُلم واليقَظة، محطَّات للرُّوح الحائر يَقطعها مرحلةً بعد مرحلة، مُتلقِّيًا من الأشياء إشاراتٍ وغمزات، مُتخبِّطًا في بحر الظلمات، مُتشبِّثًا في عنادٍ بأملٍ يَتجدَّد باسمًا في غموض. عمَّ تبحث أيها الرحَّالة؟ أي العواطف يَجيش بها صدرك؟ كيف تَسُوس غرائزَك وشطحاتك؟ لِم تُقهقه ضاحكًا كالفُرسان؟ ولِم تَذرف الدَّمع كالأطفال؟ وتشهَد مَسرَّات الأعياد الرَّاقصة، وترى سيف الجلَّاد وهو يضرب الأعناق، وكلُّ فعلٍ جميلٍ أو قبيحٍ يستهلُّ باسم لله الرحمن الرَّحيم. وتستأثر بوجدانك ظلالٌ بارعةٌ براعةَ الساحر مثل الأمِّ والمُعلِّم والحبيبة والحاجب. ظلال لا تصمد لرياح الزمن ولكنَّ أسماءها تبقى مكلَّلة بالخلود. ومهما نبا بي المكان فسوف يظلُّ يقطر ألُفةً، ويُسدِي ذكرياتٍ لا تُنسَى، ويحفِر أثرَه في شَغاف القلب باسم الوطن، سأعشق ما حييتُ نفثاتِ العطَّارين، والمآذن والقِباب، والوجه الصبيح يُضيء الزقاق، وبغال الحكم وأقدام الحفاة، وأناشيد الممسوسين وأنغام الرباب، والجياد الرَّاقصة، وأشجار اللَّبْلاب، ونَوح اليمام، وهديل الحمام).
ميرامار – رواية:
(الإسكندرية أخيرًا.. الإسكندرية قطر الندى، نفثة السَّحابة البيضاء، مَهْبِط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المُبلَّلة بالشهد والدموع).
اللص والكلاب – رواية:
(مرة أخرى يتنفس نسمة الحياة، ولكن في الجو غبار خانق، وحر لا يُطاق، وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء، وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحدًا. ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد مُنطويًا على الأسرار اليائسة. هذه الطرقات المُثقَلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين، ولا شفة تَفْتَرُّ عن ابتسامة .. وهو واحد، خسر الكثير، حتى الأعوام الغالية، خسر منها أربعة غدرًا، وسيقف عما قريب أمام الجميع مُتحدِّيًا، آنَ للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تُكفِّر عن سحنتها الشائهة).
حضرة المحترم – رواية:
(انفتح الباب فتراءت الحجرة متراميةً لانهائية. تراءت دنيا من المعاني والمثيرات لا مكانًا محدودًا منطويًا في شتى التفاصيل. آمن بأنها تلتهم القادمين وتذيبهم؛ لذلك اشتعل وجدانه وغرق في انبهارٍ سحري. فقدَ أوَّل ما فقد تركيزه. نسي ما تاقت النفس لرؤيته، الأرض والجدران والسقف. حتى الإله القابع وراء المكتب الفخم. وتلقَّى صدمةً كهربائيةً موحيةً خلَّاقةً غرست في صميم قلبه حبٍّا جنونيٍّا ببهجة الحياة في ذروتها الجليلة المتسلِّطة. عند ذاك دعاه نداء القوة للسجود، وحرَّضه على الفداء، ولكنه سلك مع الآخرين سلوك التقوى والابتهال والطاعة والأمان. كالوليد عليه أن يذرف الدمع الغزير قبل أن يملي إرادته. وتلبيةً لإغراءٍ لا يقاوم خطف نظرةً من الإله القابع وراء المكتب، ثم خفض البصر متحلِّيًا بكل ما يملك من خشوع).
الثلاثية – بين القصرين – رواية:
(عند منتصف الليل استيقظت، كما اعتادت أن تستيقظ في هذا الوقت من كل ليلة بلا استعانة من منبهٍ أو غيره، ولكن بإيحاء من الرغبة التي تبيت عليها، فتواظب على إيقاظها في دقةٍ وأمانة. وظلَّت لحظات على شك من استيقاظها، فاختلطت عليها رؤى الأحلام وهمسات الإحساس، حتى بادرها القلق الذي يلمُّ بها قبل أن تفتح جفنيها من خشية أن يكون النوم خانها، فهزَّت رأسها هزةً خفيفةً فتحت عينيها على ظلام الحجرة الدامس. لم يكن ثمة علامةٌ تستدل بها على الوقت؛ فالطريق تحت حجرتها لا ينام حتى مطلع الفجر، والأصوات المتقطعة التي تترامى إليها أول الليل من سُمار المقاهي وأصحاب الحوانيت هي التي تترامى عند منتصفه وإلى ما قُبَيل الفجر، فلا دليل تطمئن إليه إلا إحساسها الباطن- كأنه عقرب ساعة واعٍ – وما يشمل البيت من صمتٍ ينمُّ عن أن بعلها لم يطرق بابه بعد، ولم تضرب طرف عصاه على درجات سلمه).
الشحاذ – رواية:
(سحائب ناصعة البياض تسبح في محيط أزرق، تظلل خضرة تغطي سطح الأرض في استواء وامتداد، وأبقار ترعى تعكس أعينُها طمأنينة راسخة، ولا علامة تدل على وطن من الأوطان، وفي أسفل طفل يمتطي جوادًا خشبيٍّا، ويتطلع إلى الأفق عارضًا جانب وجهه الأيسر، وفي عينيه شبه بسمة غامضة. لمن اللوحة الكبيرة يا تُرَى؟ ولم يكن بحجرة الانتظار أحد سواه. وعما قريب يأزف ميعاد الطبيب الذي ارتبط به منذ عشرة أيام. وفوق المنضدة في وسط الحجرة جرائد ومجلات مبعثرة، وتدلت من الحافة صورة المرأة المتهمة بسرقة الأطفال).
حارة العشاق – قصة قصيرة (مجموعة حكاية بلا بداية ولا نهاية):
( تربَّع على الكنبة في هدوءٍ مُتوثب. تابعها بعينَيه وهي ذاهبة تحمِل صينية القهوة. تابعها وهي عائدة بجسمِها البض ووجهها المُمتلئ البدري. جميلة فاتنة! وتزداد مع الأيام نضجًا وفتنةً. ها هي تُلقي نظرةً على الحارة من النافذة الوحيدة في حجرة الجلوس. وها هي تجلس إلى جانبه على الكنبة الوسطى. وها هي الغبطة تَسيل من نظرتها وهي تقول: شكرًا للترقية!).
ثرثرة فوق النيل – رواية:
(أبريل، شهر الغبار والأكاذيب.. الحجرة الطويلة العالية السقف مخزن كئيب لدخان السجائر. الملفَّات تنعم براحة الموت فوق الأرفف. ويا لها من تسلية أن تلاحظ الموظَّف من جدِّية مظهره وهو يؤدِّي عملًا تافهًا! التسجيل في السراكي، الحفظ في الملفَّات، الصادر والوارد. النمل والصراصير والعنكبوت ورائحة الغبار المتسلِّلة من النوافذ المغلقة. وسأله رئيس القلم: هل أتممتَ البيان المطلوب؟).
فردوس – قصة قصيرة (من مجموعة خمارة القط الأسود):
(كلُّ شيء يتحرَّك بلا ضابط، والجدران على الجانبَين تتموَّج. لا غرابةَ في ذلك، ولكن الغريب حقًّا هو تهافُت الأضواء التي كاد يبتلعها الظلام، وأغربُ من كل شيء ذلك الصمت — أو ما يشبه الصمت — كأن النوم يلفُّ الطريق، إما أن الذاكرة خدَّاعة كاذبة تختلِق ما لا أصلَ له، وإما أن الدنيا تتغيَّر بقوةٍ لا ترحم الذكريات. على ذاك لم يَخطر له التراجُع على بال، ولم يَفْتر حنينُه؛ حنينه إلى فترة من العمر ذهبت إلى غير عودة، ولعن من الأعماق إحساسًا مُلحًّا لم يُعْنَ بتسميته، ولكن أليس التغيُّر أفدحَ مما تَصوَّر؟!)
يوم قُتل الزعيم – رواية:
(نومٌ قليل، وفترة انتظار ثملة بالدفء تحت الغطاء الثقيل. النافذة تنضح بضياء خفيف، ولكنه يتجلَّى بقوة في ظلام الحجرة الدامس، اللهم إني أنام بأمرك، وأصحو بأمرك، وإنك مالك كل شيء. ها هو أذان الفجر يفتتح يومي الجديد، ويسبح في بحر الصمت الشامل هاتفًا باسمك. اللهم عونَك لهجر حنان الفِراش، والخروج إلى قسوة برد هذا الشتاء الطويل).
ولولا ضيق المقام لما توقفت ولما اكتفيت بهذا الحد.. ولكني آمل أن تكون في الاختيارات السالفة ما أردته من المتعة للقارئ، ومن التحية التي تليق بذكرى الأستاذ وعميد الرواية العربية.. نجيب محفوظ عليه رحمات الله.