السبت, ديسمبر 21, 2024
Dawen APP
الرئيسيةمقالاتإيمان جبل تكتب: الأدب كأداة لتضليل شبح الموت!

إيمان جبل تكتب: الأدب كأداة لتضليل شبح الموت!

كم مرة في العمرِ يقابلُ الواحد منَّا إنسانًا يفهمه؟

ما مقدار استمراريةِ هذا الفهم؟

ما مدى إمكانية أن يكون الإنسان حقيقيًا تمامًا خلال هذا الفهم؟

إجابتي الصادقة هي الأدب ككتلة حية بإمكانها أن تتأنسن في أية لحظة، وتصيرُ إنسانك المفضل الذي لن يفتح فمه عليك ليطلق حكمًا حتى وإن عرَّيت روحَك كاملة أمامه.. إنسانك الذي سيكون ضمادتك ولو استغرقتْ عمليةُ الفهمِ عمرك بأكمله.

لم تكن شهوةُ الحَكي هي المحرك الأساسي لي، ولا حتى انبهاري الطفولي باللغة. بل كان الفهم، الفهم وحده وقدرته على جعلي كيانًا حقيقيًا يفهم موقعه من نفسه ومن العالَم.

الأدب موجود، إذًا أنت لست بحاجة لأن تتخبط داخل وحدتك، ليس عليك أن تعزِل نفسك شعوريًا.. لن تمشي في الخوف، في الألم، في الفقد، في الموت وحيدًا، منكسرًا، وموتورًا.

الأدب سيعرف كيف يلملم فتاتك، و يُقِيم المعنى الأصيل للفهم بين عينيك.

لا أدّعي بذلك أن الأدبَ ساحرٌ أو مشعوذٌ بإمكانه إبطال مفعول الألم، وإنقاذك من آثار الحروب الطويلة، وانتشال دماغك من الجنون.

لكنه على الأقل يجعلك تؤجل الموتَ -بصفة مستمرة- يومًا إضافيًا.

سألني شخصٌ قريبٌ من قلبي في صميم موقف سوداوي “لماذا تتمسكين بحياتك لهذا الحد رغم كل ما يحدث؟”.

أجبته “لأن قلبي لا زال معبئًا بالكلمات”.

قد تبدو إجابة شاعرية، ولكن الحقيقة أن خزين الكلمات داخل المرء يقصيه -في كل مرة- عن الموت خطوة.

الكلماتُ التي تهبك الوعدَ والأملَ، لتطاوعها في محاولة فضولية وتستكشف معها حكاية منصفة، أو محاكاة شافية.

للقراءة| بعد وصولها للقائمة الطويلة لجائزة غسان كنفاني.. 15 تصريحًا لـ إيمان جبل أبرزها عن “لعبة البيت”

أسئلة بلا إجابات

منذ فترة مررتُ بتجربةٍ قاسيةٍ، وفي كل لحظة داخل التجربة سؤال وحيد كان يحرق روحي دون أي إجابة:

“بعد زوال لحظة الخطر التي سقطت فيها كل الأقنعة، كيف يعود الإنسانُ آمنًا في جلده، كيف يفتح عينيه مجددًا؟”.

لم أجد مؤنسًا لذروة الهلع داخلي إلا حينما قررتُ صنعَ محاكاةٍ تفكك خلالها الحكايةُ مفهومَ الخطرِ والخوفِ من جديد، مع مراعاة الحدود الإنسانية التي افتقر إليها الواقع.

هل معنى ذلك أن الأدب يأخذ من الواقع، أو أن الواقع يسحب الأدب عليه؟

ربما لست بحاجة إلى إجابةٍ، ولا يعنيني أيهما يُخَدِّم على الآخر أو يحاولُ تركيبَ صورته فوقه. كل ما يعنيني أن هنالك وسيلة حية وحرة بإمكانها تحرير جمود الحياة، وجعلها أكثر مرونة وأقل ضراوة، وسيلة تقربك للفهم أو للأمان خطوة.

الحياة داخل الأدب

أما عن الحياة داخل الأدب، فقد منحني الأدبُ النظرةَ داخل المادة التفاعلية نفسها، حتى لو كنت في حالةِ موتٍ كتابي.

بإحدى نوبات التخبّط والسكون والوحدة، تكلمَ أحمد عبدالعاطي عن مسلسل “قُدَّاس منتصف الليل”، تحدث أحمد بصيغة تفاعلية تشمل الأدب، بل تتخطاه لما بعد البُعد الإيماني للفكرة، للوجود نفسه.

ومن خلال نظرة أحمد شاهدتُ القدّاس، والحالة الأدبية الفاهمة الواعية مسيطرة عليّ.

خرجتُ من القداس بتفاعلٍ نهائي مع منظور أحمد، وبُعد إضافي لما يمكن أن يجود به الإيمان داخل الإيمان، الإيمان داخل الأدب.

في لحظة عفوية بينما أقرأ سوزان عليوان، تسألني أميمة صبحي عن  كتابةِ سوزان لابنتها.

أميمة التي لولا سؤالها ما وصل الألم داخلي لقمَّته، حتى يجد مستقرًا نهائيًا ويهدأ.

تخرج القصيدةُ من قلبي بعد سؤال أميمة، في تفاعلٍ ما كان له أن يحدث لولا السؤال!

في كل مرة أتورط فيها مع المادة التفاعلية بيني وبين أصدقائي داخل الكتابة، أقول هل للأدب قيمة حقيقية خارج حدود التفاعل الإنساني؟

تأتي عليّ أيامٌ أقرأ خلالها عشرات الكتب، أحتك بفنونٍ مختلفةٍ.. ولا يخرج من بين يديّ مثلما يمكن أن تولده التفاعلات الحيّة اللحظية الحاضرة فيما بيننا.

للقراءة| “لعبة البيت”.. حينما تتحول الحياة إلى سجن كبير

خيط الإلهام

وما يمكن أن نسميه خيط الإلهام الذي يدفع للاحتكاك، الذي يضع الحركة أمام الحركة ليخلق تفاعلًا إنسانيًا نشطًا، ليس خيطًا عشوائيًا. بل منظومة انتقائية شديدة الحساسية.

والدليل على ذلك أن الإنسان تمر عليه الكثيرُ من التفاعلات اليومية، دون أن تحرك فيه ساكنًا، ليس هذا فقط، بل بعضها أحيانًا قد يصيبه بالغباء، ويعجز تفكيره.

وهنا يأتي دور الخيط الرفيع داخل الأدب، أن يشير بإصبعه نحو التفاعل المتسق مع مادتك، التفاعل الذي يشتعل مع تكوينك، ويوجّهك نحوه في اختصارٍ دقيقٍ للوقت والمسافة والمجهود.

هنالك قصائد كاملة، قصص، أفكار، معالجات نتجت عن فعل الحركة بيني وبين عقول الآخرين داخل الأدب ومن حوله، سواء كانت تفاعلات أدبية، أو نقاشات في الحياة، بعضها عفوي لا واعي، وبعضها محكوم بوعيٍ تحليلي صارم.

وأنا هنا لست بصدد تهديد أو هدم أسطورة العُزلة، أو منفى الكتابة الذي يتغنّى باسمه الأدباء.. أنا في الأصل ابنة هذا المنفى، لكن منفاي أدخله في مراحل كتابية معينة، المراحل التي تقتضي التخلص من أي أثر من حول أبطالي حتى لا يتم إرباكهم أو التشويش عليهم.

ربما التفاعل الإنساني وفعل الحركة هذا هو خط البداية في عملية الإبداع، مرحلة الإحماء العفويّة نفسها. الروح المُخلَّقة التي ستُرَكِّب عليها الجسدَ المناسب فيما بعد.

وربما يلزمك فعل الحركة هذا بعد فترة انقطاعٍ كبيرةٍ عن كل أنواع التفاعلات.

لا أتكلم عن الجميع، أتكلم عن طبيعتي الملولة التي تحب أن تختبر الفكرة عند كل نقطة تحوّل، عند كل دخول وخروج من عزلةٍ إلى تفاعلٍ، والعكس.

ومن أنواع التفاعلات شديدة الخصوصية والجنون تفاعل تَخَيُّل المُتَلقي.

تفاعلٌ دون تفاعلٍ، أو تفاعلٌ مع الأثرِ نفسه.

سأذكر مثالًا غريبًا على ذلك.

أحيانًا بدلًا من أن أكتب قصة ما، أو مشهدًا من رواية، أو قصيدة، على الورق أو في ملف وورد، أو في نوتة الهاتف حتى.. أفتح الشات بيني وبين صديقتي، أكتب هناك حتى أنتهي من صيغة أولية لما أريد كتابته.

أغلب الوقت أكتب دون تخيُّلٍ لنوعية متلقي، أكتب كأن لا قاريء لي، دون محاذيرٍ أو توقعاتٍ.

لكني أحيانًا أحب أن أنزلق قليلًا داخل لُعبة الأدب وأُن أكتب كجزءٍ من التجربة.

المادةُ التفاعليةُ هنا مع شبح وجود شخص ما تصنع عشرات الإحالات لما يمكن أن يؤول إليه شعوري داخل تجربة كتلك.

حالة euphoria مكتملة الأركان تنشّط حواسي.

وأعتقد أن فكرة الكتابة داخل الإقامات الأدبية، أو تجمعات الكتابة تشبه ما أود قوله.

يخيّل إليّ مثلًا أن الكتابة وسط مجموعة كهذه، تنتج كتابة مختلفة جدًا ولها جمالها الخاص.

ليس فقط بفضل توفير الوقت والطقوس والظروف الموائمة للكتابة، بل بسبب المادة التفاعلية داخل الأثر نفسه.

أثر كل من حولك ودخولهم اللامرئي ضمن حيّز لعبتك داخل المادة الكتابية.

منذ أسبوع اقترح عليّ إسلام وهبان وإسراء إبراهيم -في لطف يشبه لطف المادة الأدبية نفسها- كتابة سلسلة مقالات حول موضوعٍ أحبه.

فاخترتُ الكتابة عن علاقتي الإنسانية بالأدب.

ولأن الرحلة خلال الكتابة هي أكبر دليل على التغيّر، على انعدام الثبات، فإنني أوثّق الآن شكل العلاقة التي ربما تتغير وللأبد في الغد..

ولكن حتى وإن تغيرت، فإنني أحب أن أحتفظ بنسخةٍ من هذا التغيير، من كل تغيير، وكل حركة ممكنة.. وغدًا بإمكاني الكتابة عن تغيير الغد.

للقراءة| حصاد دار دوِّن للنشر والتوزيع لعام 2023

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات