نقلا عن جريدة الشروق
ــ 1 ــ
تنهض رواية أحمد المرسى «مقامرة على شرف الليدى ميتسى» (صادرة عن دار دون للنشر، يناير 2023) على تناول أربع شخصيات يمكن وصفها بالإشكالية، شخصيات تتقاطع مصائرهم وخطوط حياتهم فى لحظات اتصال، فى فترة زمنية مهمة وساخنة فى تاريخ مصر (قبل مائة عام تقريبا أو يزيد بسنتين أو ثلاث)، وهى فترة ستستهل فيها مصر تجربتها التاريخية «شبه الليبرالية» بصراعاتها الحزبية والطبقية والاجتماعية والفكرية، فضلا على الصراع الأهم والأخطر بين القوى الوطنية والقوى الاستعمارية (الاحتلال البريطانى) الذى كانت غايته دمج مصر ومواردها وإدارتها فى بنية المؤسسة الاستعمارية الأضخم والأشرس فى العالم آنذاك.
هذه هى الخلفية العامة للرواية التى سيضبط فيها أحمد المرسى مهارته السردية وقدراته الحكائية فى لحظة فارقة من تاريخ مصر والعالم، وليجعل من «عالم السباق» مرآة تنعكس عليها آلام وآمال شخصياته، مثلما تنعكس عليها صورة مصر الثرية والفقيرة معا، بجالياتها الأجنبية، وبمواطنيها، وبما يمور فيها من صراعات ومواجهات وتوترات.
ــ 2 ــ
الشخصية الأولى؛ الضابط الذى عزل من الخدمة، وجرد من رتبته وصفته الرسمية «سليم حقى»، ويكاد يكون الذين طرحوا المقارنة بينه وبين شخصية «محمود عبدالظاهر» فى رائعة بهاء طاهر «واحة الغروب» يقعون فى فخ المماثلة الشكلية، دون مراعاة السياق التاريخى والاجتماعى والنفسى لكل منهما، واختلاف الأزمة التى عاينها كل منهما سواء النفسية أو الوجودية أو حتى «المعرفية».
والشخصية الثانية، سمسار الرهونات والخيول «مرعى المصرى»، أقرب ما يكون إلى شخصية ابن البلد «الفهلوى» الذى يلعب بالبيضة والحجر، ولكنه ينطوى على ماض أليم وندبات فى الروح والجسد لا تنمحى.
والشخصية الثالثة؛ هى صبى الطحاوية النابه «فوزان الطحاوى»، الذى سيكون «المعادل الموضوعى» فى الرواية كلها، الحامل لتجليات الأزمة والشعور بالخزى والخذلان، وإبراز الفوارق بين الطبقات فى مصر فى وقت كانت هذه الفوارق والفجوات سببا أصيلا فى البحث عن أفكار العدل الاجتماعى و«العدالة الاجتماعية»، وانتشار الفكر الاشتراكى فى مواجهة الرأسمالية وتمثيلاتها الاجتماعية والمؤسساتية.
وأخيرا الشخصية الرابعة، الوجيهة الإنجليزية الثرية «الليدى ميتسى» (كأنها المعادل الروائى الموضوعى لشخصية الليدى جوردون، السيدة الإنجليزية الشهيرة التى عاشت فى مصر وماتت بها ودفنت فيها، وتركت كتابا مهما بعنون رسائل من مصر ترجمه إلى العربية إبراهيم عبدالمجيد). ويضيف محمود عبدالشكور ــ فى قراءته الذكية للرواية ــ شخصية خامسة، هى شخصية الفرسة البيضاء «شمعة» التى يراها هى أيضا «فى قلب هذا الصراع الذى يدور بالأساس فى العام 1920، والذى أعاد إحياء عالم سباقات الخيول فى عصرها الذهبى، بعد حرب عالمية طاحنة، وثورة وطنية عظيمة (1919)»، وبحيث يصبح سباق الخيول، وتصبح رحلة «شمعة» من جزيرة سعود إلى حلبة الرهان، وكواليس المقامرة والتدليس من أجل الفوز، معادلا فنيا، لصراعات طبقية واقتصادية واجتماعية، ومجازا ممتازا لصراع الإنسان مع نفسه، ومع أقداره، وترجمة لمعركة الحياة نفسها، سعيا لتحقيق أمنيات خطرة، تستعبدأصحابها، مثلما تستعبد الرهانات أعناق المقامرين».
ــ 3 ــ
وهكذا يقيم أحمد المرسى عالمه الروائى وخيوط نسيجه السردى من تتبع خيوط الحكاية الخاصة بكل شخصية على حدة، ولضمها بحنكة ومهارة فى الحكاية الأكبر «حكاية الرواية كلها». موازيا بين عالم السباقات والرهونات على الخيل، بكل مفرداته التاريخية والثقافية واللهجاتية، وبين الحياة فى مصر فى تلك الفترة، وموازنا بين الانتقال من وقائع الحلبة، ومضمار السباق، والبحث عن الرهان وبين الصراعات المحتدمة داخل نفوس شخصياته، وأزماتهم الفردية، وبحثهم عن خلاص كل بطريقته (المقامرة والرهان والاستعانة بمن يشبهنا فى الآلام والبحث عن خلاص أيضا.. إلخ). كأننا أمام صراع مستمر، منذ البداية حتى النهاية، وكأن جوكى السباق، وخيوله الأصيلة والمهجنة، تعبر أيضا عن الشخصيات الأربعة: ضابط السوارى المفصول «سليم حقى»، وسمسار الخيول الفهلوى «مرعى المصرى»، وسائس وجوكى الخيول الصبى «فوزان الطحاوى»، والسيدة الإنجليزية الثرية «الليدى ميتسى خشاب»..
ثنائيات عدة يمكن توصيفها فيما يخص دواخل هذه الشخصيات، ومسارات حياتها ومآسيها، وبحثها اللا نهائى عن لحظة توازن، بحثها عن الكرامة المهدورة، والحبيبة السقيمة، والابن الغائب، والآمال التى نتمنى أن تكون قائمة ولو فى خيالنا نحن. إن هذه الشخصيات كذلك «عنوان للإنسانية المعذبة، بحيرتها وتمزقها بين الأوهام والحقائق، وبين الرغبة والاستطاعة، والنصر والهزيمة، والمكسب والخسارة، والفقد والامتلاك»، كما يقرأها عبدالشكور حقا.
ــ 4 ــ
وأخيرا.. فمن الظلم البين فى قراءة هذه الرواية (أو غيرها من الروايات) الوقوف عند جملة أو اثنتين يمكن أن يراها البعض «كليشيها تقليديا» أو الوقوف عند مقطع حوارى هنا أو هناك للتدليل على ما يراه البعض أو يطلق عليه «ضعفا لغويا» أو «تصويرا ضحلا» أو «ركاكة تعبيرية»، وسأفترض أن هناك ما يمكن اصطياده منتزعا من سياقه ككل، لكن من قال إن هكذا تكون قراءة الروايات ومن قال إن هذه الطريقة تمثل شكلا من أشكال النقد أو المراجعة أو إطلاق الأحكام الصارمة والباترة على النصوص؟ ومن قال إن هذه الابتسارات والاجتزاءات والاقتطاعات تكفى للحكم برداءة أو ركاكة عمل يتكون من 350 صفحة ينهض على تخيل عالم بأكمله يعج بشخوصه وأماكنه وفضاءاته السردية؟!
يحزننى أنه فى الوقت الذى يفترض فيه أن نقارب الأعمال الأدبية والفنية بذائقة منفتحة ومتقبلة تغاير الأساليب والمثل الجمالية التى نؤمن بها ونضعها فى مراتب علينا أن نتقبل كذلك الاختلاف والمغايرة ولا نجعل من رفضنا لبعض الأعمال أو عدم تقبل ذائقتنا لها سبيلا للإساءة والتشهير والتنمر واعتبار أن ما نكتبه محملا بهذه الحمولة العنيفة من الرفض والسخرية الجارحة «نقدا» أو «قراءة» أو «رأيا!» ورحم الله الناقد الكبير رجاء النقاش حين قال «النقد لا يقتل».. (وللحديث بقية)