صفاء الزرقان
بدأت رواية “الكلب الذي رأى قوس قزح” للكاتب عصام الزيات، بعد قراءة عدة أعمال لإبراهيم أصلان، وشعرت بشيء من روح أصلان فيها، جذبني لأركض خلف الصفحات بنهم فقدته منذ زمن.
كم مرة يمكن للإنسان أن يرى قوس قزح؟ إنها مرات قليلة جدا والبعض قد يحيا ويموت ولا يراه؛ لذا فإن مَن يراه في لحظة تصير لحظة فارقة في حياته، وقصة يحكيها مرارا وتكرارا معدلا ومنقحا حتى تخرج بأفضل صورة. إنها لحظة ذروة يتبعها هبوط بلا ريب. والمحظوظون هم مَن يتبعون ذروتهم خط مستقيم لا انحدار.
للقراءة| رأي جلال برجس في رواية “الرجل الذي أراد أن يكون”
لكن هل رأى الكلب حقًا قوس قزح؟ هل للكلب القدرة على تمييز الألوان؟ كانت تلك لحظة ذروة للكلب وحدث يسكن إلحاح سؤال العنوان لدى القارئ بعض الشيء. حدث أو لقطة تخبر القارئ بأن كل ظهور لقوس قزح يكون لحظة مهمة للشخصية وقدرها وتشكلها.
“السيد” اسم الشخصية الذي بقي محط سؤال، فهل هو شخص معرّف؟ أم السيد ويبقى مجهولا، السيد مَن؟ شخصية عاشت مناصفة كما يقول درويش، فلا هو هو ولا سواه، كأنه شبح يمشي إلى شبح. هل هو الفقير المعدم أم الثري؟ حياة مفتوحة لكل الاحتمالات، مظهر يُنبئ بعلو شأنه ومآل بائس في “الزريبة” ثم مطرودًا. يصارع آلام الاحتمالات واللايقين في كل شيء، تلك اللعنة التي تطارده.
لا يقين ولا إجابات إلا بعد الحد الفاصل بين هنا وهناك، الموت. استراح خميس وأنهى فصول حياته باختياره وغادر “الزريبة”. لكن مَن يجيؤون بعد موتك بحاجة لإجابة وإلا لسعتهم سياط الاحتمالات. فرسم السيد حكاية بسيطة هادئة تنهي ألم الاحتمالات لدى عائلة خميس وكأنه يشفق عليهم من اللعنة التي يعيشها.
تبدأ الرواية بفصل معنون بـ “أمام السور” نرى السيد الشخصية الرئيسية والراوي أمام سور مستشفى يوشك على مغادرته ويراقب الأهالي المكلومين والفزعين من مصيبة ترتبط بذويهم في الأعلى. كل صخب سيارات الإسعاف وجلبة الناس لكن لم يكن أي منها على كثرتها له. ليس هناك مَن ينتظره وهو لم ينتظر شيئًا. كدرويش حين قال “لم ينتظر شيئاً، ولا حتى مفاجأةً، فلن يَقْوَى على التكرار…قال -لا أَقسو على نفسي، ولا أَقسو على أحدٍ،
وأنجو من سؤال فادحٍ: ماذا تريد.. ماذا تريد؟”.
يقترب شاب يعرف السيد أنه ابن خميس من الشبه. لكن مَن هو خميس وما علاقته بالسيد التي جعلته يعرف الابن من الشبه ليكون حدسه صحيحًا؟ حدث يجعل القارئ متوقعًا لوجود صلة صداقة بين الاثنين، لكن لا شيء يمكن توقعه في النص، وهنا كانت البراعة والذكاء في الكتابة.
تتوالى الفصول لاحقُا موزعة بين عنوانين فقط هما السيد وفي الغرفة. يختلط فيهما الحاضر بالماضي، استرجاع واستدعاء لشريط حياة عريض متقلب، يتحرك بين ذروة وانحدارات كلها غير متوقعة. وتختتم بفصل أمام السور. كل ذلك يدور في غرفة بائسة في المستشفى رفقة جثة.
لهدم بيت لا يلزمك شيء سوى أن تخذله وتخونه، عندها لن تحتاج لجرافات وآليات هدم يكفي أن تدفعه بقبضتك فيخر المنزل مهدمًا. هكذا أخبره والده، حين حكى له أنهم كانوا قديمًا إذا أرادوا قطع شجرة كبيرة جاءوا بصاحبها ليدق مسمارُا في جذعها، وبعدها ينخرها السوس وتذبل وتموت ويسهل اجتثاثها من الأرض، وهكذا البيت. يموت من الهجر. وبالمثل كان البيت المسلح بمثابة المسمار الذي دقه السيد في كيان والده فقتله. لكنه عجز عن أن يكون كالغراب فيواري سوأة والده. وهنا تدرك العلاقة بين المتن والغراب ذو الهندام المنمق والعين الدامعة على الغلاف.
شخص يفعل الأشياء لأنها باستطاعته، لا لأنه يحبها، عاش بنصف قلب، لم يعرف لمَ فعل الأشياء. تعتمل في داخله أفكار ومشاعر لا يقدم عليها، ينصاع لزوجة حرمته اليقين وجعلت الشك في كل شيء ينخر عظمه، لكنه أكمل حياته معها. تختلط الأمور على القارئ الذي يسأل نفسه هل تراه يحبها أم يحب الصورة الأولى التي تخيلها عنها؟ في فصول تراه يصارع ذاكرته العاجزة عن استعادة الذكريات ودون ذلك تجرع مرارات الماضي لكنه يتحمل ذلك من إجل نور! وتراه يصف بؤس حياته معها فتتعجب. هو عاجز عن البت في شيء أو إنهاء شيء، يحيا مناصفة.
عوقب بالحياة وهو يشتهي الموت، ولم يعرف هل هي لعنة أصابته حين استجاب الله دعوة والدته بأن يتركه لها؟ يتأمل حياته ويتحسر متسائلا عما إذا كانت “هذه هي النهاية؟ تُنسى كأثر جسد على مرتبة إسفنجية.” يغبط خميس ويسأل لمَ تُرك إلى الآن؟ لمَ لم يكون هو بدل خميس؟ الفرق بينه وبين خميس أن الثاني أراد ففعل، أسدل الستارة على الفصل الختامي لحياته بإرادته. فهل على السيد أن يختار بنفسه أن تنتهي حياته كما خطر له حين فكر بتفسير لدعوة والدته؟
كل ظهور لقوس قزح في حياة السيد كان مفصليًا، فقد رآه حين حلم بالثراء ورسم مستقبله. وفي مشهد الختام كان قوس قزح أيضًا، جاء مثلما كانت شجرة التوت في فيلم طعم الكرز لعباس كيارتسمي، في الفيلم ثنى طعم التوت وشروق الشمس عن الانتحار وكذا كان قوس قزح في الرواية. الجمال الذي لا يحتمل تماما كالألم الذي جعله يقف على حافة الحياة.