يمنى أحمد
“شعر أنه صار قريبًا من القوس أكثر مما كان طوال حياته، وأن بإمكانه الصعود إليه الآن، فقط لو تحمل قدرًا بسيطًا من ألمٍ جديدٍ لمرةٍ أخيرة”. قد تبدو هذه العبارة عادية جدًا إذا ما قرأتها في أي مكان آخر غير هذه الرواية، ولكن لأنها كُتبت خصيصًا لها، ستشعر وأنت تقرؤها بأنك تختنق، وبأن العالم كله يتشوَّش بسبب غشيان الدموع لعينيك. ستدرك حينها أن الرواية، بشكلٍ أو بآخر، هي حياتك، وأن الكاتب تمرد على الأمل وكتب الحقيقة كما هي تمامًا، إيمانًا منه بالاستمتاع بالسوء قبل أن يأتي الأسوأ.
في رواية “الكلب الذي رأى قوس قزح“، الصادرة عن دار دوِّن للنشر والتوزيع، للكاتب عصام الزيات- كان لي موعدٌ مع نوعٍ آخر من الشقاء، شقاء الواقع الذي نغض الطرف عنه يوميًا، بينما نعيش رفاهية قتل الوقت؛ سواء بالعمل أو الدراسة أو التسوق أو حتى الحب. كلها وسائل لقتل الوقت وعيش الملل بصور مختلفة. لم يزعجني يأس الأبطال من الحياة ولا فقرهم، لأنني رأيت إصرار السيِّد على بيع أرض أبيه التي عاش فيها طوال حياته وورثها عن أجداده. كما لم تزعجني أفكار خميس، الذي، رغم أولاده من صلبه، لم يشعر يومًا بالونس بينهم، ولم يعش الونس إلا لمرةٍ أخيرة عندما كانت أفكار الموت تُنازعه، حينها شعر بالونس الحقيقي بينما كان يُكبِّس نفسه في السرير ويضع فوق رأسه المخدة.
للقراءة| “أنا في انتظارك”.. رحلة في أعماق الأبطال
أقول “أولاد خميس من صلبه” حتى أعود إلى حيرة السيِّد في تفسير نسب توأميه: هل هما من صلبه حقًا أم خانته نور؟ وهل كانت نور تخونه فعلًا أم أنه هو من خان نفسه عندما عرض عليها الزواج في البداية؟ هل سيصبح كمالًا أبًا حقيقيًا لابنه بعد أن غيَّر اسمه من السيِّد إلى كمال؟ وهل ستنير حياته بعد أن غيَّر اسم الشركة من “صفية” إلى “نور”؟ لا أدري إن كان النور سيزور حياته بعد ارتقاء السيِّد، ولكنني متأكد أن حياته ستخلو تمامًا من الصفاء.
أكثر ما أشفقت عليه في هذه الرواية هو تصرفات نور. أشفق على تحولات غضبها السريعة وحساسيتها المفرطة بلا داعٍ، وقسوتها على السيِّد منذ أول لقاء. هذه التصرفات لا يمكن أن تصدر عن شخص يحب الحياة؛ هي فقط تحاول امتلاكها، كما يفسر اقتناءها للأشياء وإهمالها، بما فيهم السيِّد. لم تكن تحسن الانفعال أو تقدير المواقف، لكنها كانت ذكية للغاية، ذكية بما يكفي لتضع زوجها في مواجهة نفسه، بين حقيقة كونها أم أبنائه أم لا.
أحيانًا أشعر أن الحياة التي عاشها السيِّد كانت حلمًا أو وهمًا! هل يمكن أن تكون الرواية اختزالًا لواقعٍ يرغب في عيشه من ناحية الثراء فقط وامتلاك القوة؟ هل يصح القول إنه لا يزال نائمًا في بيتٍ بالطين، ممسكًا بحديدة حتى لا يسقط في جو الريف الشاتي؟ وأن مقابلته رجل الأعمال في القطار كانت محض تنبيه من عقله الباطن إلى أنه لا يزال يحب الحياة ويرغب في المغامرة؟ مغامرة منشأة الأوقاف والحلم الكبير الذي يتداخل مع حلمه بأن يحيا بعد دفن أخيه!
لماذا لم يمت السيِّد مثل أخويه؟ لا أظن أن هذا استجابة لدعوة صفية كما ظن السيِّد، بل إنه لم يمت لأن هذا كان عمره المحدد. مات في الوقت الذي شعر فيه أنه أقرب إلى القوس مما كان حين رآه برفقة الكلب. وفي حادثة انقطاع الأكسجين عن مستشفى طنطا، أكد لي الكاتب أننا نموت كل يوم حتى ونحن نتلقى الأكسجين، وأن قلوبنا قد تُكتب عليها كلمة “فارغ” كما كُتبت على اسطوانات الأكسجين.
أعجبني توظيف المستشفى في أحداث الرواية، فعندما ننظر إليها لا نتخيل سوى الموت، حتى لو كانت الحالة المرضية بسيطة كارتفاع طفيف في ضغط الدم. الموت الذي يحيط بسور المستشفى كان أرحم من قسوة نور، والحسرة التي شعر بها عزت في مكان موته كانت أصعب من ابتسامة السيِّد عندما نال ما يريد. أما المليون، فهو مجرد رقم في عدّاد الأيام المسروقة من فم الزمن.
في كل مرة أقلب فيها صفحة من الرواية، تزداد عيني جشعًا لقراءة السطور التالية، ويلحق قلبي بتلك المشاعر العميقة التي تغمر الرواية. أبكي أحيانًا، أسخر أحيانًا، وأبتسم مرةً واحدة. لا أستطيع وصف إعجابي بالرواية بسهولة. في النهاية، الرواية رائعة كفكرة وهدف ورؤية ثاقبة لكاتب عظيم. ولكن هل استحقينا فعلًا أن نعيش كل هذه المشاعر “الملخبطة” مع السيِّد؟ أو نفرح لأن الكاتب لم يكن أنانيًا وشاركنا الحيرة والحزن مع شخصياته؟
هذه رواية كئيبة بامتياز وواقعية بامتيازٍ أكبر. هي من النوع الذي يجعلك تدرك قوة الكاتب في ترك بصماتٍ داخلك، حتى وإن كنت تهرب من الحزن وتبحث عن الأمل. ستدرك أن الأهم هو التمتع بالجنون، لا العقل، لتعيش حياةً راغدة في هذه البلاد. لا أقول إن مدينة طنطا كانت اختيارًا موفقًا كمكانٍ لأحداث الرواية، بل أؤكد أنها كانت الاختيار الأنسب؛ لأن شوارعها بحاجة لمن يسير عليها مثل شخوص الرواية وأحداثها.
أشعر أن لدي الكثير من الكلمات التي أريد أن أصف بها مشاعري بعمق أكبر، لكنني حاولت كبح جماحها لأن قلبي لم يعد يحتمل. لم يعد يحتمل الغدر ولا القسوة، ولا حتى شجاعة الكتابة عن واقعية أحلامي. منذ اليوم الأول وأنا لا أستطيع تفسير شعوري تجاه طنطا، لكنني أقدسها لأنها مدينتي التي نشأت بجوارها. هذه الرواية أضافت لي نظرة جديدة قد تجعلني أحب مدينتي أو حتى أعشقها!
أنهيت قراءة الرواية منذ أسبوعين، ولكني لم أجرؤ على الكتابة عنها حتى يهدأ قلبي. كنت أريد أن يكون أول تعليق لي بعد فترة طويلة من الانقطاع تعليقًا مليئًا بالأمل، ولكن هذه الرواية علّمتني أن للأمل وجهًا آخر غير الألم، وأن للأمل خيالًا نعيشه كل يوم على أمل ملاقاة الأمل ذاته واحتضانه.