آه يا سادة.. هل تعلمون عندما تقضون يومكم في المواصلات العامة وسط الزحام والوجوه المكفهرة؟ ترى هذا يتشاجر مع ذاك، ومتحرش يهم بالانقضاض على إنسانة تسير مرهقة ليفسد يومها وربما حياتها.
آه انظروا لهذا الشاب التعس الذي يتصبب عرقًا ويبحث عن وظيفة. تلك المرأة الحبلى التي تسير مع زوجها الموظف الذي لا ينفك عن التفكير بالديون ومصاريف تحويل المدرسة. متشرد يرفع رأسه من على حافة الرصيف ليرمق الجميع. محصل ضرائب يدخل بناية. رجل يركن سيارته ليقف ويقضي حاجته على جانب الطريق وسط الجميع.
نرشح لك: خالد أمين يكتب: أسرار أدب الرعب (6).. ليلة الموتى الأحياء!!
صوت صياح من داخل إحدى الشقق، أسرة متحابة كالمعتاد يتعاملون بمنطق الوحوش والضرب والسباب. جار يلكم جاره. تاجر بقالة يبتسم بخبث وهو يغير الأسعار، آه يا سادة أنه الواقع. بإمكانكم قراءة رواية واقعية من طراز أدب “حدث واقعي في عالم واقعي” لو أردتم هذا، بإمكاني ترشيح سومرست موم أو نجيب محفوظ بقلب مستريح لو أردتم تلك النوعية من الأدب، أنا شخصيًا أؤمن بكل أنواع الفن ولكن عندما يتعلق الأمر بالذائقة الشخصية، فستجدوني أبتسم وأتنهد، وأتخيل.. هناك في عالم بديل، بعيدًا عن هذا الواقع النهاري الغريب، توجد كواكب أخرى ومجرات، محيطات، ليل وظلام، ومنذ أكثر من قرن تواجد فان كوخ وابن سينا وفرويد وغيرهم وهم يستكشفون المجهول.
هل أنتم من محبي الخيال؟ لنبدأ إذن.. سنترك ناردين الصباغ وابراهام فان هيلسنج في قصر سليمان المرعب مع الميت الحي الذي يحكي لهم عن أسرار الرعب، سنعود إليهم لا تقلقوا، لكني أؤمن بالتجديد.. ولكي أكون صادقًا.. هناك شيء آخر يحدث علينا فهمه.
لغز ..
سر ..
شيء غامض ..
هل خمنتم ما هو؟
نحن في لندن الآن، وسط الضباب عام 1877، أنه العصر الفيكتوري حيث الخيول التي تصهل والشمعدان الذي يضيء ويبدد الظلمات بالشموع، الحنطار والقلاع وبيوت الفقراء، ربما نجد جاك السفاح يجول بالأزقة ليلًا، البعض يقول إن لندن كانت عاصمة العالم في تلك الآونة. نرى هذا الرجل متوسط الطول، ممتلئ الجسد، يسير متبخترًا، ويده تلمس شاربه الأنيق بفخر، يمكن للعين الملاحظة، إدراك أنه رجل أربعيني معتد بنفسه، شديد التأنق، ويعتني بشاربه بشكل مبالغ به، ومن السهل تخمين أنه مصاب بوسواس قهري متعلق بالتنظيم والترتيب والنظافة، لو لم تخمن هذا بعدما قفز بهلع ليبتعد عن صبية ملطخين بالاثمال يلعبون على بعد أمتار منه، أو كيفية تفحصه لأبزيم حذاؤه بعدما مر جواره حنطار متسببًا بمياه متناثرة من فوق حفرة بالأرضية الزلقة ، فالتخمين ليس بهوايتك المفضلة إذن، لقد ظل الرجل الصغير يمسح حذاؤه لعشرة دقائق كاملة بعد ذلك قبل أن يواصل السير. ثم توقف أمام بناية رقم 44 بشارع بايكر، وغمغم لنفسه بلكنة بلجيكية: لقد حان وقت تشغيل الخلايا الرمادية يا هيركيول، لمعرفة إجابة اللغز الأعظم، وهو سبب اكتئاب شيرلوك هولمز.. ثم دلف الرجل الضئيل الأشبه ببيضة مستديرة متحركة، لا داعي للقول إنه من أعظم الشخصيات الروائية على مدار التاريخ الأدبي. واسمه بوارو.. هيركيول بوارو.
ما هو سبب اكتئاب شيرلوك هولمز؟ صاح الصبي بالعبارة وهو يلوح بالجرائد، وحول العالم طالعت عيون باقي الشخصيات الروائية هذا التساؤل المتصدر للصحف العالمية، جيمس بوند يتزلج فوق ثلوج روسيا، ويمر جوار لافتة إعلانية عليها جملة “الإجابة من كلمات قليلة، ما هو سبب اكتئاب شيرلوك هولمز؟”.. أرسين لوبين يتسلل لقصر جميل بباريس ليلًا، ويلمح تلك العبارة أعلى جريدة ملقاه فوق منضدة فاخرة بالقصر ، ما هو سبب اكتئاب شيرلوك هولمز؟
يشيح أرسين لوبين، اللص الفرنسي النبيل، وخليفة روبن هود، برأسه بعيدًا، لا يجب أن ننسى أن أول لقاء بين شخصيات خيالية وأبطال خارقين لم يكن سوبرمان وباتمان أو أبطال مارفل بل كان من قرابة 100 عاما، عندما قام الأديب الموهوب موريك لبلان بكتابة ثلاثية ملحمية صارع فيها شيرلوك هولمز، أرسين لوبين، ولعمري كانت تلك الثلاثية غاية في الإبداع والجمال.
وفي لوس انجيليس “تنطق كما كتبت نسبة لمدينة الملائكة بالإنجليزية” يجلس المحقق الخاص فيليب مارلو، يدخن لفافة تبغ ويلقي بتشبيه ساخر وهو يرمق المدينة الآثمة، وجواره تستلقي جريدة عليها عنوان “لماذا اكتأب شيرلوك هولمز”، لا يجب أن ننسى أن فيليب مارلو هو الشخصية الروائية التي غيرت أدب التشويق والغموض للأبد عندما قدمها الكاتب العبقري “رايموند تشاندلر” في بداية الأربعينات كرد فعل للأدب البريطاني المختص بالجريمة والغموض من طراز “من فعلها؟” الذي كان يهيمن على قراء العالم بأسره حينئذ. كتابات اغاثا كريستي وآرثر كونان دويل، حيث القصر الفاخر واللورد الإنجليزي المقتول وعدد المشتبه بهم والمحقق العبقري، أنا عاشق لهذا النوع بالمناسبة، لكني عاشق بنفس القدر للأدب شديد الاختلاف الذي ظهر كردة فعل على يد ثلاثة مؤلفين لقبهم النقاد بالثلاثي المقدس، وهم داشيل هاميت مؤلف رواية الحصاد الأحمر التي تحولت لفيلم من أجل حفنة دولارات الشهير من إخراج سيرجيو ليوني -لنا حديث منفصل عن هذا العبقري المخبول شديد الأهمية- وروس ماكدونالد، والكاتب الثالث هو رايموند تشاندلر.
هنا سنجد محقق خاص بمعطف وقبعة يحكي لنا تفاصيل قضيته بتقنية السرد الذاتي -قبل ذلك كان الأسلوب المتبع في السرد هو أن يحكي لنا صديق المحقق مثل واطسون مع هولمز وهيستنيجز مع بوارو أو أسلوب الراوي العليم- وبأسلوب ساخر ومظلم، عُرف هذا النوع من الأدب باسم “النوار” وهي كلمة فرنسية تعني اللون الأسود، ويمكن القول أن رايموند تشاندلر قد اخترع هذا النوع من الأدب، ونتج عنه أفلام سينمائية بنفس الاسم احتلت هوليود من الثلاثينات للخمسينيات كما يحدث الآن مع أفلام الأبطال الخارقين.
في الأدب “النوار” نجد عنف وجرأة في الوصف العاطفي، شخصيات ثلاثية الأبعاد مكتملة، وفي لقاء راديو بين ايان فليمنج مبتكر شخصية جيمس بوند و رايموند تشاندلر، لقاء نادر وجدته بصعوبة، في هذا اللقاء يسأل فليمنج تشاندلر “كيف تبتكر شخصية الشرير في رواياتك؟” ويجيب تشاندلر: “أنا لا أفكر بهم على أنهم أشرار، هم مجرد بشر قاموا باختيارات خاطئة، أحدهم فقد حلمًا كما تعلم”.
طبعًا هذا دليل آخر على الاختلاف في الفن، فليمنج اعتاد أن يقدم أشرار مميزين في روايات جيمس بوند، بينما تشاندلر اعتمد على تقديم شخصيات ثلاثية الأبعاد بها الخير والشر، وفي النهاية سوف تستمع بروايات الاثنين رغم الاختلاف بينهما، فقط استمتع بخيالك والرحلة مع إدراك نوع الفن الذي تعبر بوابته بمصباح مضيء دون الحاجة لاتهامه بانتقادات لاذعة لأنه ليس ما اعتدته، بمناسبة الاعتياد يجب الذكر أيضًا ان رايموند تشاندلر اختار أن يجازف بتقديم أدب جديد في عصره ولم يقم بتقليد الأدب البريطاني من نوعية “من فعلها” حينذاك، وطبعًا قبيلة ذلك كان الأدب البريطاني بحد ذاته طفرة جديدة، ما أريد قوله هو “الابتكار والمخاطرة هم أساس النجاح على المدى البعيد والخلود الأدبي، التقليد هو ضمان النجاح المؤقت والنسيان”.
اه يا لاستطراد المؤلفين هذا، كنت أتحدث عن الخبر العالمي، سر اكتئاب شيرلوك هولمز، في مصر كان أدهم صبري بصدد مغامرة جديدة مع منى توفيق عندما سمع كلاهما الخبر، نور وفريقه العلمي سمعوا بالخبر وهم في الفضاء، رفعت إسماعيل لم يسمع بالخبر في الحقيقة لأنه لا يكترث لهذا الهراء على حد قوله، كارم العدوي كان في السيرك عندما قال له المهرج ضاحكًا “لقد عرفت سبب اكتئاب شيرلوك هولمز”.
وعودة للندن عام 1877، في 44 شارع بايكر، دخل هيركيول بوارو البناية، مر جوار جون واطسون وهو يصعد الأدراج بتؤدة، وجه الأخير كان شديد الامتقاع والشحوب، وغمغم واطسون لنفسه “لقد حاولت، لقد حاولت، لا شيء سوف يخرجه من هذا الاكتئاب، أعظم عقل بشري في العالم يعاني من اكتئاب حاد ولا أحد يعرف سبب”. قطب بوارو جبينه في دهشة وقال بلكنته البلجيكية: أنا أعظم عقل بشري في العالم، وأنا أؤكد لكم، بوارو على ما يرام.. لبوارو عادة أخرى وهي الحديث عن نفسه بصيغة الغائب، رجل شديد التواضع كما ترون.
ثم واصل بوارو صعود السلم وقد بدأ ينهج، اخرج منديل ورقي وضعه على فمه وسعل قليلًا ثم واصل رحلته حتى وصل للطابق الثاني، طرق الباب وطفق ينتظر.
“ارحل”
أتاه صوت جهوري من الداخل. وتمتم بوارو: صوت رجل مجنون.
“ارحل يا واطسون”
– أنا لست واطسون يا منسيور
قليل من الصمت، فكر بوارو أن عقل هولمز البوليسي يحلل اللكنة في صوته ويتخيل شكل صاحبها، لا بد أنه سيصف بوارو الآن، بطريقة مبهرة كالمعتاد، الحقيقة أن أغاثا كريستي قدمت شخصية بوارو كرد فعل لشخصية هولمز نفسها، هولمز يمثل المنطق العملي البارد، منطق الرياضيات العلمي، التحليل والاستنباط، بينما بوراو يحل جرائمه دون الحاجة لعدسة مبكرة أو تحليل البصمات أو الرماد على ياقة قميص المتهم، بوارو ظهر إبان شغف وهوس العالم بسيجموند فرويد وعلم النفس الذي كان ظاهرة جديدة في هذا الوقت، وعليه فإن بوارو يحل جرائمة بتحليل النفس البشرية واكتشاف أغوارها، بعبارة أخرى هو يستخدم علم النفس بدلًا من العدسة المبكرة والمنطق العلمي.. أو يستخدم العاطفة.
– ارحل يا موريارتي، لن تخدعني لكنتك تلك
اندهش بوارو، شيرلوك هولمز لم يستطع تخمين شخص بوارو من خلف باب مغلق، ما الذي حدث للعالم؟
– أنا لست بموريارتي عدوك اللدود يا مونسيور هولمز.
– ارحل كائنًا من كنت وكف عن إزعاجي
ثم أجفل بوارو عندما سمع صوت إطلاق رصاص، أعقبه موسيقى صاخبة، قبل أن يتذكر أن هولمز عبقري مجنون يقضي وقته بإطلاق الرصاص من مسدسه الساقية صوب الحائط ثم يعزف الكمان بعدها قبل أن يتعاطى الكوكايين والأفيون..
تنهد بوارو امتد إصبعه ليعدل من طرف شاربه الرفيع الذي اهتز إثر حركة بوارو مع صوت الرصاص، ولم ينس إخراج مرآة صغيرة من جيب سترته الداخلي ليتأكد من وضع شاربه، قبل أن يخرج معطر ويرشه على مقبض الباب، ارتدى بعدها قفازه الذي يقيه من الجراثيم وأدار مقبض الباب.
– لو لم ترحل الآن سأطلق عليك الرصاص.
– مونسيور هولمز هلا كففت عن تلك الألعاب الطفولية وفتحت الباب؟
– من أنت عليك اللعنة؟
– بوارو، هيركيول بوارو.
قالها بوارو بفخر وهو منتصب القامة. صمت.. صوت خطوات.. قبل أن ينفتح الباب، ويظهر وجه مستطيل لرجل نحيف فارع القامة يرتدي روب منزلي، لا قبعة ومعطف ولا غليون في فمه، فقط وجه شاحب وعينين يكللهم السواد، رفع بوارو رأسه ونظر للرجل خلف الباب قبل أن يقول: مرحبا منسيور هولمز.
في الجزء القادم سنرى محادثة غريبة، غير مألوفة، ومخبولة قليلًا بين شارلوك هولمز وهيركيول بوارو. ولسوف نعرف سبب اكتئاب هولمز. احم ولكي أكون صادق هناك مفاجأه تنتظرنا.
آه انتظروا بوارو يريد أن يقول لكم شيئًا..
يستدير بوارو إلينا، ينحني محيًا ويده على قبعته كي لا تقع، قبل أن يقول: مرحبا يا قوم عالم الجديد، أنتم هناك القادمون من سنة 2023، أنتم تعرفوني بالطبع، فلا داعي لتعرفة نفسي، أنا هيركيول بوارو، أعظم محقق في التاريخ، وأريد معرفة أرائكم قبل دخولي لشقة هذا السيد الإنجليزي الغريب، ما الذي تعتقدونه؟ ما هو سبب اكتئاب شيرلوك هولمز؟