نحتفي جميعا في هذه الآونة بالمتحف المصري الكبير، الذي يحتوي على أهم مقبرة في العالم “مقبرة توت عنخ أمون” ذات الخمسة آلاف وأربعمائة قطعة أثرية تم اكتشافها عام 1922 على يد هوارد كارتر المغامر البريطاني الذي طالب وقتها باقتسام مقتنيات تلك المقبرة مع الحكومة المصرية حيث كان القانون يسمح بذلك
والسؤال كيف احتفظنا بكامل المقبرة رغم وجود هذا القانون؟
ومن صاحب الفضل في بقائها بمصر؟
ولماذا نتعامل على أن احتفاظنا بكامل المقبرة شيء بديهي؟
أهلا وسهلا بك أيها القارئ، لم أجد سوى تلك التساؤلات كي ألفت انتباهك للغرض من هذه المقالة وما يتبعها من سلسلة مقالات بعنوان خلف المنصة، لترى دور القانون في تحريك أحداث مختلفة في تاريخ مصر.
لقد أحاط بمصر العديد من الأحداث الجسام كان خلفها مثل تلك التساؤلات، كان هناك دائما حائطا خلفيا لا نراه ولكننا نستند إليه جميعا بتلك البديهية الفكرية التي تسيطر على عقولنا، هكذا هي علاقة الأدب بالقانون.
مؤخرا ألقيت محاضرة على السادة أعضاء الهيئات القضائية الجدد وطرحت عليهم سؤلا أين نجد تاريخ المحاكم والهيئات القضائية ورجال القضاء؟، فأجاب الملأ “في القانون” لكنها إجابة خاطئة والإجابة كانت “في التاريخ يا سادة وليست في القانون”
ليست قصة الفرعون الصغير “توت عنخ أمون” فقط، ولكن هناك قصصا أخر، كيف تولى فاروق عرش مصر رغم صغر سنه؟!، لماذا لم نخض الحرب العالمية على الرغم من وجود معاهدة 1936؟، لماذا لم تحفر بريطانيا بعد احتلالها لمصر قناة سويس جديدة رغم أن ذلك كان هدفها الأول والمشروع الذي تقدمت به حكومتها عند الاحتلال؟!، أسئلة إجابتها تاريخية بنكهة قانونية ولكنها مثل الحائط الذي نستند عليه لا نراه، إجابة صادرة من خلف منصة الرأي والمشورة ولكن لا نراها.
لن أطيل عليك لأروى لكم فيما هو قادم الإجابة على تلك الأسئلة ومثلها في مقالات قادمة.
1- الملك الصغير
اللورد كارنارفون وهوارد كارتر، القدر وحده جاء بهذين الرجلان من إنجلترا ليجتمعا في وادي الملوك بالأقصر، ليشهد العالم بأسره على أيديهم أكبر كشف أثرى لمقبرة أشهر ملوك مصر “توت عنخ أمون”.
الأول هو “جورج كارنارفون” كان ثريا ومحبا للمغامرة، وجمع اللوحات والكتب النادرة، وفي يوم ما أثناء ذهابه إلى زوجته في الريفيرا الفرنسية سقطت سيارته في حفرة فترك الحادث أثرا في صدره، وأصبح يجد صعوبة في التنفس، فنصحه الأطباء بالابتعاد عن رطوبة إنجلترا والاستشفاء في جنوب فرنسا إلا أن صحته لم تتحسن فنصح بالذهاب لمصر لمناخها الجاف الدافئ
أما “هوارد كارتر” فقد ولد في 1873 بقرية بإنجلترا، وكان أبوه فقيرا لم يستطع أن يرسله إلى أيه مدرسة فتعلم الرسم بالألوان المائية، وفي هذه الأثناء كان عالم الآثار “بيرسى نيوبري” أستاذ التاريخ القديم بالجامعة المصرية، قد التقى باللورد كارنارفون وأقنعه بأن اكتشاف قبر فرعوني أفضل من الفوز في سباق الدربى الشهير ببريطانيا، فاستهوى الأمر اللورد كثيرا، فقرر البحث عن قبور الفراعنة، عاد بيرسى إلى إنجلترا وأخذ يبحث عن مساعد له ينقل (يرسم) اللوحات التي على جدران المعابد والآثار المصرية، وتحدث مع صديق له عن هذا الأمر فاقترحت زوجة صديقة اسم “كارتر”، الشاب الذي يقطن بالقرية، تدرب كارتر على يد نيوبري ثلاثة أشهر بالمتحف البريطاني في لندن، ثم جاء به إلى مصر عام 1890 في بعثة أثرية يمولها صندوق البحث عن الآثار المصرية التابع للمتحف المصري وكان عمر كارتر وقتها سبعة عشر عاما، عمل بعدها كارتر مع أحد كبار علماء الآثار المصرية هو السير “ويليام بيتري” لمدة سبع سنوات حتى عمل مفتش للآثار المصرية في صعيد مصر، وفي هذه الأثناء كان “كارنارفون” يبحث عمن يتولى عنه مهمة التنقيب لأن مدير الآثار أصر على عدم تسليم اللورد ترخيص بالحفر إلا إذا استعان بخبير، فأشار عليه بكارتر، وفي عام 1914 تقدم كارنافون إلى مدير مصلحة الآثار بطلب ترخيص بالحفر في المنطقة التي تنازل عن امتيازها تيودور دافيز الذي كان على بضعة أقدام من مقبرة توت، ووافق مدير الآثار على منحه الترخيص لمدة عام ويجدد سنويا حسب رغبة المصلحة ونص فيه على أن: الحفر والتنقيب يكون على نفقة اللورد والعمل بعناية كارتر، مومياوات الملوك والأمراء وكبار الكهنة وتوابيتهم ونواميسهم تبقى ملكا للمتحف المصري، وكذلك التحف ذات الأهمية التاريخية الكبرى، باقي التحف تقسم مناصفة بين مصلحة الآثار وصاحب الترخيص مكافأة لتعبه، فيحصل على نصف الآثار أو نصف الثمن.
* المدفن السليم وجميع تحفه تؤول لمصلحة الآثار.
وفي 1918 عدل الترخيص ونص في المادة التاسعة من الترخيص على أن المدافن السليمة تؤول ملكيتها للمتحف المصري، وفي السادس من نوفمبر عام 1922أبرق كارتر إلى اللورد برسالة مفادها “أخيرا اكتشاف رائع في الوادي، مقبرة بأختام سليمة، كل شيء مغلق انتظارا لوصولك، تهانينا”. اكتشف كارتر مقبرة “توت عنخ أمون” احتوت على خمسة آلاف وأربعمائة قطعة أثرية تقريبا، “أخذ كارتر في الحفر والترميم، وأشاع أنه ظهر له من الدلائل أن أجزاء من باب المقبرة فتحت بعد عشرة أو خمسة عشر عاما من وفاة الملك وهو ما يساعده على اقتسام الآثار مع الدولة المصرية
وبدأت بوادر الأزمات تظهر حينما اختار اللورد يوم 29 من نوفمبر 1922 لإقامة حفل افتتاح المقبرة وهو يوم كانت مصر فيه بلا وزارة عقب استقالة عبد الخالق باشا ثروت، ولم توجه الدعوة لرئيس مصلحة الآثار، وبدأ كارتر في التحكم فيمن يدخل لزيارة المقبرة من عدمه لدرجة جعلت الصحافة العالمية تكتب عن أعمال اللورد وكارتر” شركة توت عنخ أمون ليمتد “
وبدأت وكالات الأنباء البريطانية تشيع أن المقبرة سرقت من قبل ومن ثم فمن حق اللورد وكارتر اقتسام الآثار مع الدولة المصرية، اضطرت وزارة الأشغال أن تصدر بيانا توضح فيه أنه ليس من حق اللورد الحصول على شيء وفق الترخيص؛ لأن المقبرة سليمة لم تمس، وفي 23 ديسمبر وفي محاولة غير مباشرة لتأكيد حقه في نصف الآثار أعلن كارتر أن القبر لم يمس وأنه اقتحم بعد خمس وعشرين سنة من وفاة الملك، إلا أن مستشاري وزارة الأشغال فسروا ذلك على أنه تأكيد على أن المقبرة نبشت ولم تسرق، ومن ثم فإن آثارها سليمة ولا حق للورد كارنارفون أو هوارد كارتر في شيء. أدركت في وقتها صحيفة الديلي إكسبريس البريطانية والنيويورك تايمس الأمريكية أن كارتر ارتكب خطأ فادحا قد يؤدى إلى خسارة قضيته.
إلا أن الضربة الموجعة التي أصابت كارتر وبحق كانت وفاة اللورد في الخامس من أبريل من عام 1923 إثر إصابته بلدغة في خده الأيسر من حشرة بوادي الملوك (وهو ما فسره البعض بأنه لعنة الفراعنة)، ثم لاحظ مدير مصلحة الآثار قيام كارتر بتسجيل الآثار المكررة في كشف منفرد بطريقة توحي بأحقيته في هذه الآثار، ثم كان الاختلاف في أحقية من يدخل أو يزور المقبرة، فما كان من كارتر وبكل رعونة إلا أن قرر وقف العمل بالمقبرة وقام بغلق المقبرة، واحتفظ بالمفتاح الوحيد للمقبرة لنفسه دون الرجوع لمصلحة الآثار، فقررت الحكومة إلغاء عقد امتياز الحفر، وعندما فطن كارتر إلى خطورة هذا العمل حاول فتح المقبرة إلا أن البوليس المصري قد تلقى تعليماته بمنع أي شخص من الدخول حتى لو كان كارتر، واجتمع مجلس الوزراء برئاسة سعد زغلول في 20 فبراير1924 ووافق على إلغاء الامتياز الممنوح للورد كارنارفون، لم يقف كارتر مكتوف الأيدي فأسرع بإقامة دعوتين أمام المحاكم المختلطة الأولى يطالب فيها بنصف الآثار والثانية يطلب فيها تعيينه حارسا على المقبرة، بدأت المحكمة في نظر القضية في صباح يوم 23 من فبراير عام 1924 بقيادة القاضي الأمريكي كرابيت.
تولى الدفاع عن مصر في هذه القضية المستشار الملكي لوزارة الأشغال” روبرتو ا روستي “، الذي أبدع في دفاعه عن مصر وعن أحد ملوكها توت عنخ أمون، لن أستفيض في الإشارة إلى براعة هذا الرجل (الإيطالي) في الدفاع عن مصر، واستمر النزاع القضائي والسياسي عدة سنوات لنحتفظ بالمقبرة كاملة ونحتفي بها حاليا دون ثمة إشارة إلى أصحاب الفضل الكبير
هل يعنى ذلك أن الطليان هم أصحاب الفضل في الإبقاء على المقبرة؟ بالطبع لا، فقد كانت هناك شخصية مصرية أسطورية خلف الحائط الذي نستند عليه ولا نراه أو نستطيع أن نقول إنه كان خلف منصة الرأي والمشورة، لكن هذا موضعه مقالا آخر.