أشرنا فيما سبق كيف كان لأصحاب الرأي والمشورة آراء ساهمت في تشكيل تاريخ مصر الحديث، كالإبقاء على مقبرة الملك الصغير توت عنخ أمون وتولية ملك صغير آخر على العرش هو الملك فاروق ومسألة خوض الحرب العالمية الثانية وأحداث أخرى كثيرة، عمالقة أفرزتها تلك الأحداث مثل العلامة عبد الحميد باشا بدوي، لكن من كان الأكثر صخبا؟
إنه بلا جدال عبد الرزاق باشا السنهوري، ولد في 11 أغسطس عام 1895 بمدينة الإسكندرية، دخل مدرسة الحقوق عام 1913 وكان الأول على دفعته، تعين وكيلا للنائب العام في المنصورة عام 1917 حتى ثورة 1919 حيث شارك بالثورة – بدعوته إلى إضراب الموظفين – فنقل إلى أسيوط، وعين قاض بالمحاكم المختلطة ثم مستشارا ملكيا بقضايا الحكومة وحصل على ست شهادات دكتوراه وعين للتدريس بالجامعة وعين وزيرا للمعارف، وشارك في وضع أهم القوانين (القانون المدني).
لكن هذا الرجل لم يكتف أبدا بتلك المناصب دائما ما كان يبحث عن المادة القابلة للاشتعال في داخله، كان يبحث عن الصخب، بدأ الصخب عام 1935 – على رواية توفيق الحكيم صديق السنهوري في كتابه “عودة الوعي” – عندما انعقد مجلس الوزراء لفصل الدكتور السنهوري من الجامعة لأنه ألف جمعية سياسية من الطلاب لنشر الدعوة للوفد بإيعاز من صديقه عضو الوفد النقراشي، الذي كان أستاذا له في المدرسة الثانوية بالإسكندرية، لكن الحدث الأعظم كان توليته رئاسة مجلس الدولة عام 1949، وأصبح مالك ناصية الرأي والمشورة لمصر، حتى جاءت اللحظة الفارقة في حياة المصريين في الثالث والعشرين من يوليو عام 1952 عندما قامت الثورة المصرية بقيادة الجيش المصري وتنازل فاروق عن عرش مصر لابنه الرضيع أحمد فؤاد الثاني بصياغة يد السنهوري باشا لقد ثار التساؤل بعدها حول وجوب تشكيل مجلس للوصاية على العرش يحكم باسم الملك القاصر حتى يبلغ سن الرشد السياسية، فقيل بوجوب حلف الأوصياء اليمين أمام البرلمان قبل توليهم سلطات الحكم وفقا للمادة 52 من الدستور، وقيل بأن المادة (52) يقتصر تطبيقها فقط على حالة وفاة الملك دون تنازله عن العرش كما حدث مع فاروق بما لا يتطلب حلف الأوصياء اليمين أمام البرلمان قبل توليهم لمهامهم.
ولم يكن الخلاف فقهيا فقط بل كان خلافا سياسيا؛ لأن البرلمان كان قد حل في عهد وزارة الهلالي باشا التي تشكلت بعد حريق القاهرة في يناير 1952 – وأصبحت الحياة النيابية معطله- وكان سيترتب على الرأي القائل بحلف الأوصياء اليمين أمام البرلمان أن يتم دعوة أعضاء المجلس النيابي وكانت الأغلبية وفدية، وفي هذه اللحظة يمكن للأغلبية البرلمانية الوفدية أن تسقط الحكومة وتكون حكومة وفدية جديدة.
لذلك تم استطلاع رأي مجلس الدولة، وانعقد قسم الرأي بمجلس الدولة في 31 يوليو 1952 بجميع أعضائه برئاسة سليمان حافظ وكيل المجلس لقسم الرأي، وفوجئ الجميع بحضور عبد الرزاق باشا السنهوري ليرأس الاجتماع بنفسه بغرض الإجابة عن طلب الفتوى المقدم من رئيس الوزراء بالاستعلام عما إذا كان يجوز دعوة مجلس النواب المنحل من عدمه وفقا للمادة 52 من الدستور.
وكانت الخطورة تتمثل في تلك المادة أنها – إذا ما تم تفعيلها في حالة التنازل عن العرش – فإنها تجيز للبرلمان المنحل أن ينعقد من تلقاء نفسه وتباين قسم الرأي بمجلس الدولة في تفسير هذه المادة إلى وجهتين الأولى تبناها الدكتور وحيد رأفت والثانية تبناها سائر أعضاء قسم الرأي وفى مقدمتهم السنهوري وسليمان حافظ.
فأما الرأي الذي استند إليه الدكتور وحيد رأفت فكان يستند إلى قياس خلو العرش بالوفاة على خلو العرش بالتنازل عنه وبالتالي يجوز دعوة مجلس النواب المنحل.
أما الرأي الثاني فكان يتبناه باقي أعضاء قسم الرأي بالمجلس بزعامة السنهوري وسليمان حافظ ومفاده أن المادة 52 من الدستور مقصورة على حالة الوفاة، أما حالة التنازل عن العرش فإن الدستور لم يواجهها، ولا يمكن دعوة مجلس النواب المنحل في هذه الحالة.
انتصر السنهوري وقدم وحيد رأفت استقالته وبهذا الرأي أسبغ الدكتور السنهوري وسليمان حافظ الشرعية الدستورية الكاملة على استحداث هيئة وصاية على العرش فقدما بذلك خدمة جليلة للضباط الأحرار حيث مكنهم من تفادى أي مواجهة مع حزب الوفد حفاظا على الاستقرار، وصاغ السنهوري بيديه وثيقة تنازل الملك فاروق عن العرش، حتى انتهى الضباط الأحرار إلى تشكيل حكومة بقيادة اللواء محمد نجيب جاء فيها سليمان حافظ نائبا لرئيس مجلس الوزراء، وظل الدكتور السنهوري رئيسا لمجلس الدولة، بل ورشح لمنصب رئيس مجلس الوزراء – لولا اعتراض أمريكا عليه بسبب ميوله الشيوعي- وظل داعما للواء محمد نجيب، حتى حدث الصدام بين اللواء محمد نجيب والضباط الأحرار انتهى إلى إقصاء محمد نجيب وعزل سليمان حافظ والتعدي على الدكتور عبد الرزاق السنهوري في فناء مجلس الدولة يوم 29 مارس عام 1954 واتهم السنهوري في أقواله أمام النيابة جمال عبد الناصر بتدبير الحادث كما أنه رفض مقابلته عندما زاره بعد الاعتداء علية، وأعقب ذلك صدور قرار مجلس قيادة الثورة بحرمانه من حقوق السياسية وفقد بذلك صلاحيته لتولى منصب رئيس مجلس الدولة، أقام دعوى؛ لإلغاء ما تعرض له فأقامها له من اختلف معه في الرأي من قبل واستقال بيده “وحيد رأفت”.
في أوراقه الخاصة التي نشرتها ابنته الوحيدة نادية السنهوري ذكر أن “بداخل كل إنسان مادة قابلة للاشتعال إن وجدها توهج”، بلا شك لقد وجد العلامة عبد الرزاق السنهوري مادته ولكنها لم تكتفي بالوهج لقد تناسى أنها قابلة للاشتعال.