صباح ككل صباح لكن سماءه أكثر صفاء.. بدأ يوم جديد ومعه تأتي كل تلك الأفكار التي تختمر في ظلمة الليل، يتراقص ضوء النهار في راحة كفتاة ترقص بيت أترابها، لا يخجل ولا ينطوي، اعتادت الرقصة ذاتها كل صباح حتى صارت خطواتها فالس يرقص عليه الكون بأسره، اعتادت النغم والخطوات والمشاعر ذاتها فصار لا يخجلها منها شيء. للنهار ذاكرة بحجم ذاكرة الكون اختزنت حيوات خلق بعد خلق، شهد علي ولادة بعد ولادة وموت بعد موت وعلى الرغم من كل شيء لم تتوقف خطوات الفالس يوما.
لا زالت السماء حانية تطل على خلق تائهين وتبتسم فليس هناك حب ولا كره ولا خير ولا شر ولا عدل ولا ظلم لم تره من قبل، رأته كله وفي أحلك الأوقات وحين لم يكن في قلب الكون قدرة على المغفرة، ابتسمت، لم تنقطع. أما عني وعنك فنحن لازلنا قابعين خلف حدقات عيون ترى ولا تبصر، نستشعر الحياة بمفرداتها وكأنها مخاض جديد، ننظر حولنا فلا نرى إلا قزائم أمور نتوه فيها وكأنها الحياة.
اليوم نطرح سؤالا وجوديا نبحث له عن إجابة؛ ماذا لو أننا فطرنا كفطرة السماء؟ ماذا لو كان لنا بصر كبصرها وذاكرة كذاكرتها؟ ماذا لو أننا ولدنا ومعنا ذاكرة الكون وأفراحه وأحزانه؟ هل كنا سنصبح أكثر حكمة؟ هل كنا سنصبح أكثر سعادة؟
للقراءة| “واحترقت أوراق القضية”.. أوراق محترقة وسراب الأحلام: رحلة واصل في قاهرة الخمسينات
حين نولد فإننا نولد صفحة بيضاء لا رتوش فيها ولا ألوان، ربما نفطر هكذا لأن نفسنا لن تطيق ما قد تحمله من ذاكرة الكون إن هي استشعرتها. نقضي عمرا ننقش فيه على تلك الصفحة نثقلها بحبر يخضب أنسجتها، يزداد وزنها بمشاعر وذكريات ثم نظن أن التهما العدم إذا ما أسلمنا حياتنا لبارئها من جديد ماذا لو لم تذهب صفحتنا إلى عدم؟ ماذا لو كانت صفحاتنا بمشاعرها وذكرياتها تبقى منقوشة في السماء؟
تصبح السماء أكثر من شاهد على حياتنا بما فيها من نجاحات وإخفاقات تصبح السماء كاتم سر الكون وحيواته ما سبق منها وما لحق، ماذا لو كانت لكل نفس صحيفة منقوشة هناك وكأن السماء داتا سنتر كبير يعمل بلغة كودية لا يقرأها إلا من تعلمها فانكشفت أمامه، ماذا لو كان جلاء البصر هو العلم بلغة التكويد تلك.
ثم يأتي تحدي جديد، إن كانت صحيفتنا قد تبوأت مكانتها في السماء فهل هناك من يستطيع استدعائها؟
ماذا لو استطاع الناس استدعاء تلك الصحف ترى هل سنجد لنا حيوات سابقة قد أتمت النقش على صفحتها قبل أن تسلمها؟ ربما هناك أكثر من محاولة في هذا الإختبار وربما نكون قد أسلمنا ورقتنا من قبل، ربما لن نطيق أن نقرأ ما فيها.
نولد وتنمحي عنا وقت الولادة ذاكرتنا الكونية فنحيا في هذه الدنيا دون عبء ما اقترفناه من قبل، تخيل لو كنا نعلم كل شيء، تخيل لو كان لنا حمل السماء من المعرفة.. ربما كان من رحمة الخالق العظيم أن وضع غطاء على بصرنا إشفاقا علينا من حمل السماء، ربما أشفق علينا من الخزي وشعور الفشل ، ربما أراد لنا وهم البدايات الجديدة طمعا في أمل زائف.
لو كنا نعلم ما في السماء لما كان الاستيقاظ من النوم غاية. لكن من يستطيع تخزين الصحائف لن يعجز عن استدعائها وتحميلها على الروح من جديد، ذات الروح وصحائف عدة وكأن لكل منا نصيب من ذاكرة الكون. نخزن نصيبنا من الذاكرة ولكن لا نستطيع استدعاءه لأننا لم نتعلم لغة التكويد، نعيش حياتنا كلها في محاولة تعلم تلك اللغة إذ ربما لو تعلمناها تمكننا من الاستفادة من ذاكرة الكون.
تواردت حكايات كثيرة عن بشر استدعوا ذكريات حياة سابقة ولكن استرعى انتباهي حكاية جيمس ليننجير ذي الست سنوات والذي استدعى حب الطائرات والاهتمام بها منذ ست السنتين وأحلام مؤلمة عن انفجار في طيارة كانت تقيمة من نومه فزعا مما استرعى انتباه والديه الذين بحثا حتى توصلا إلى أن هذا الإنفجار الذي يعيشه ابنهم كل ليلة في أحلامه هو انفجار حدث في الحرب العالمية الثانية مات فيه طيار يدعى جيمس ربما يعيش من جديد من خلال ابنهم.
لماذا لفتت تلك الحكاية نظري بالتحديد؟ ربما لأن الحكاية صورت جزءا من معاناة البشر إنهم رأوا ما يقبع خلف المستور، لم يوضع الغطاء على بصرنا عبثا ولكنه ما وضع إلا شفقة علينا، فنحن لسنا كالسماء، لن نطيق إلا حياة واحدة نظن فيها أننا نعيش أماكنها ونرى فيها مشاهدها لأول مرة، فنندهش.
ماذا لو كان قدر لنا أن نمضي في هذه الحياة دون أن نندهش؟ عبء ثقيل هي الحياة حينها. ومثل ما أننا نستحق الشفقة على أرواحنا فإني أشفق على سماء سعة استيعابها ذاكرة كونية ممتدة، تحمل أحزان أرواح طافت الكون ولازالت تطوفه كل يوم، أشفق عليها من إخفاقاتنا التي لا تنتهي وعبثيتها التي لا تنفك توتر نظام الكون وخطته البديعة المحكمة، أشفق على سماء تختزن آلام وحروب وويلات صنعناها وسلمناها في صحف من ولى وظننا أن تبعاتها قد انقطعت.
أما عني أنا فإنني كلما نظرت إلى السماء رأيت صفاء وزرقة رائقة وكأنها ابتسامة مطمئنة فلا أنفك أسأل: ماذا لو امتلكت ذاكرة السماء؟